أشد من الأول من أجل إبطال ما أثبتوه، والتراجع عما قرروه ويرون ضد ذلك كفراً!!
وليس هذا فحسب، بل جرى شأنهم أنه خلال هاتين الثورتين الجامحتين ينشق عنهم بعضهم ويشتطون في التهجم على الطائفة الأصل، ويكفرونها بسبب التردد والتقلب، أو بسبب أحد الرأيين - إما السابق - وإما الآخر، ويحدث عندئذ أن ترد عليهم تلك الطائفة بلا تورع ناسبة الكفر إليهم، بسبب مفارقة الجماعة أو بأي سبب تراه.
ثم إنه غالباً ما ينشأ من حدة هذا الخلاف فرقة ثالثة تتوسط بين الطائفتين، وتتوقف عن كلا الرأيين، فما تلبث أن تعنف منهما، وتوصم بالكفر، لأن كلاً منهما يوجب عليها أن تكون معه وإلا فهي كافرة.. وهكذا دواليك، سلسلة من تضخيم المواقف أو الاجتهادات والتكفير بها، يصاحبها سلسلة من الانشقاقات الجذرية والمفاصلات الكاملة.
فقد ابتدأ أمرهم يوم صفين، حين قالوا لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه عليك أن تقبل تحكيم كتاب الله وإلا فأنت كافر.
فلما وافقهم على التحكيم كارهاً مرغماً، قالوا: حكمت الرجال في دين الله، فأنت كافر، لأنه لا حكم إلا لله!!
فلما قال لهم: ما حكمت مخلوقاً، إنما حكمت كتاب الله، والكتاب خط مسطور، وإنما ينطق به الرجال، وما فعلت ذلك إلا برأيكم، قالوا: قد كنا لما رضينا بالتحكيم كافرين، والآن نتوب من الكفر، فإن شهدت على نفسك بالكفر وتبت عدنا إلى طاعتك، فقال: أبعد إيماني بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وهجرتي وجهادي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أشهد على نفسي بالكفر؛ قد ضللت إذن وما أنا من المهتدين [1] .
وعندما كتبت وثيقة الصلح، وطلب أهل الشام منه أن يمحو كلمة أمير المؤمنين، محاها رضي الله عنه رغبة في الصلح وتصديقاً لما أخبره به النبي صلى الله عليه وسلم من قبل [2] . [1] انظر: الطبري (5/83) ، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، والفتح (12/284) ، ومقالات الإسلاميين، ص 4، تحقيق ريتر. [2] في قصة الحديبية.