فضائلي البليغة. أفلا تقول الجحيم: وهذه بلاغة رذائلي؟ وكيف لعمري يستطيع إبليس أن يؤدي عمله الفني, ويصور بلاغته العالية إلا في ساقطين من أهل الفكر الجميل, وساقطات من أهل الجسم الجميل؟
لقد بعدنا عن القطين، وأنا أريد أن أكتب من حديثهما وخبرهما.
كان القط الهزيل مرابطًا في زقاق، وقد طارد فأرة فانجحرت في شق، فوقف المسكين يتربص بها أن تخرج، ويؤامر نفسه كيف يعالجها فيبتزها، وما عقل الحيوان إلا من حرفة عيشه لا من غيرها. وكان القط السمين قد خرج من دار أصحابه يريد أن يفرج عن نفسه بأن يكون ساعة أو بعض ساعة كالقططة بعضها مع بعض، لا كأطفال الناس مع أهليهم وذوي عنايتهم، وأبصر الهزيل من بعيد فأقبل يمشي نحوه، ورآه الهزيل وجعل يتأمله وهو يتخلع تخلع الأسد في مشيته، وقد ملأ جلدته من كل أقطارها ونواحيها، وبسطته النعمة من أطرافه، وانقلبت في لحمه غلظًا، وفي عصبه شدة، وفي شعره بريقًا، وهو يموج في بدنه من قوة وعافية، ويكاد إهابه ينشق سمنًا وكدنة. فانكسرت نفس الهزيل، ودخلته الحسرة، وتضعضع لمرأى هذه النعمة مرحة مختالة. وأقبل السمين حتى وقف عليه، وأدركته الرحمة له، إذ رآه نحيفًا متقبِّضًا، طاوي البطن، بارز الأضلاع، كأنما همت عظامه أن تترك مسكنها من جلده لتجد لها مأوى آخر.
فقال له: ماذا بك، وما لي أراك متيبسًا كالميت في قبره غير أنك لم تمت، وما لك أعطيت الحياة غير أنك لم تحيَ، أوليس الهر منا صورة مختزلة من الأسد، فما لك -ويحك- رجعت صورة مختزلة من الهر؛ أفلا يسقونك اللبن، ويطعمونك الشحمة واللحمة، ويأتونك بالسمك، ويقطعون لك من الجبن أبيض وأصفر، ويفتّون لك الخبز في المرق، ويُؤثرك الطفل ببعض طعامه، وتدللك الفتاة على صدرها، وتمسحك المرأة بيديها، ويتناولك الرجل كما يتناول ابنه؟ وما لجلدك هذا مغبرًّا كأنك لا تلطعه بلعابك، ولا تتعهده بتنظيف، وكأنك لم تر قط فتى أو فتاة يجري الدهان بريقًا في شعره أو شعرها، فتحاول أن تصنع بلعابك لشعرك صنيعهما؛ وأراك متزايل الأعضاء متفككًا حتى ضعُفتَ وجهدتَ، كأنه لا يركبك من حب النوم على قدر من كسلك وراحتك، ولا يركبك من حب الكسل على قدر من نعيمك ورفاهتك، وكأن جنبيك لم يعرفا طِنْفِسة ولا حَشِيَّة ولا وسادة ولا بساطًا ولا طرازًا، وما أشبهك بأسد أهلكه ألا يجد إلا العشب الأخضر