responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : وحي القلم المؤلف : الرافعي ، مصطفى صادق    الجزء : 1  صفحة : 276
وما أدري ما هو؟ ولكن يخيل إلي أن ظل كل طفل منهم يُثقل وحده عربة.
قال الأدهم: وأنا فقد كنت أجر عربة القُمامة والأقذار، وما كان أقذرها وأنتنها، ولكنها على نفسي كانت أطهر من هؤلاء وأنظف؛ كنت أجد ريحها الخبيثة ما دمت أجرها؛ فإذا أنا تركت العربة استروحت النسيم واستطعمت الجو، أما الآن فالريح الخبيثة في الزمن نفسه، كأن هذا الزمن قد أروح وأنتن منذ قُرنتُ بهؤلاء وعربتهم.
قال الكميت: إن ابن الحيوان يستقبل الوجود بأمه, إذ يكون وراءها كالقطعة المتممة لها، ولا تقبل أمه إلا هذا، ولا يصرفها عنه صارف، فتُرغم الوجود على أن يتقبل ابنها، وعلى أن يعطيه قوانينه؛ أما هؤلاء الأطفال فقد طردهم الوجود منه كما طرد الله آباءهم وأمهاتهم من رحمته؛ وقد هُديتُ الآن إلى أن هذا هو سر ما نشعر به؛ فلسنا نجر للناس ولكن للشياطين.
وهنا وقف على حُوذيّ العربة صديق من أصدقائه فقال: من هؤلاء يا أبا علي؟
قال الحوذي: هؤلاء هؤلاء يا أبا هاشم.
قال أبو هاشم: سبحان الله, أما تترك طبعك في النكتة يا شيخ؟
قال الحوذي: وهل أعرفهم أنا؟ هم بضاعة العربة والسلام, اركبوا يا أولاد، انزلوا يا أولاد, هذا كل ما أسمع.
قال أبو هاشم: ولكن ما بالك ساخطًا عليهم، كأنهم أولاد أعدائك؟
قال الحوذي: ليت شعري من يدري أي رجل سيخرج من هذا الطفل، وأية امرأة ستكون من هذه الطفلة؟
انظر كيف تعلقت هذه البنت وعمرها سنتان، في عنق هذا الولد الذي كان من سنتين ابن سنتين[1], لا أراني أحمل في عربتي أطفالًا كالأطفال الذين تحملهم العربات إلى أبواب دورهم؛ فإن هؤلاء اللقطاء يُحمَلون إلى باب الملجأ، وهو باب للحارات والسكك لا يأخذ إلا منها، فلا يرسل إلا إليها.
أنا -والله- يا أبا هاشم، ضيق الصدر، كاسف البال من هذه المهنة؛ ويخيل إلي أني لا أحمل في عربتي إلا الجنون والفجور والسرقة والقتل والدعارة والسكر وعواصف وزوابع.

[1] تعبير بالنكتة على طريقة ظرفاء البلديين من أمثال "أبي علي"، والمراد أنه ابن أربع سنوات.
اسم الکتاب : وحي القلم المؤلف : الرافعي ، مصطفى صادق    الجزء : 1  صفحة : 276
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست