يقول: هؤلاء الرجال الذين في العجاجة أسود فرائسها الأسود. شبه أعداءه بالأسود أيضاً، ثم قال: يقود هذا الأسود أسدٌ، وهو الممدوح. تصير له جميع الأسود من جيشه وجيش عدوه بمنزلة الثعالب، فلا يقومون قدامه.
في رتبةٍ حجب الورى عن نيلها ... وعلا فسموه علي الحاجبا
حذف التنوين من علي وأصله: علياً الحاجب، وإنما حذفه ضرورة؛ لسكونها وسكون اللام من الحاجب وقد قرىء: " قل هو الله أحد " بحذف التنوين من أحد.
يقول: إنه من الشرف في رتبة منع الناس عن الوصول إليها، وحجبهم عن نيلها، ثم علا إلى ما هو أعلى منها؛ فسمي لذلك علياً الحاجب. فكأنه سمي علياً لعلوه، وحاجباً، لأنه حجب الناس عن رتبته.
ودعوه من فرط السخاء مبذراً ... ودعوه من غصب النفوس الغاصبا
المبذر: الذي يفسد ماله بالتفريق.
يقول: أفرط في السخاء؛ فدعي مبذراً، وأكثر من غصب نفوس الأعداء؛ فسمي غاصباً.
ومخيب العذال فيما أملوا ... منه وليس يرد كفاً خائبا
يقال خيبه: إذا قطع أمله. وذكر الكف في قوله خائباً ذهاباً بها إلى العضو. كما قال الأعشى:
يضم إلى كفيه كفاً مخضبا
والذي زاده حسناً: أن الخائب هو صاحب اليد، فالمعنى يرجع إليه.
يقول: إنه يخيب عذاله. إذا عذلوه في سخائه ولا يرد سائلاً خائباً من عطائه.
هذا الذي أفنى النضار مواهباً ... وعداه قتلاً والزمان تجاربا
النضار: بالضم الذهب، وبالكسر الجمع. وهو جمع نضر، وهو المذهب.
يقول: هذا الممدوح هو الذي أفنى جميع الذهب بالمواهب، حتى لا يوجد شيء منه إلا وهو من مواهبه، وأفنى أعداءه فلم يبق منهم أحد، ولذلك أفنى الزمان تجارباً حتى لا يوجد زمان إلا وله فيه تجربة.
هذا الذي أبصرت منه حاضراً ... مثل الذي أبصرت منه غائبا
روى: مثل رفعاً ونصباً؛ فالرفع تقديره: أن يكون هذا مبتدأ أول والذي مبتدأ ثان. ومثل خبر الذي والجملة خبر هذا. والضمير في منه: يعود إلى هذا. وتقدير النصب: أن يكون هذا مبتدأ والذي خبره ونصب مثل بأبصرت، ونصب حاضراً وغائباً على الحال من الكرم والشرف، مثل ما كنت أسمعه وأنا غائب لا كالذي يزيد.
كالبدر من حيث التفت رأيته ... يهدي إلى عينيك نوراً ثاقبا
يقول: هو كالبدر، فمتى التفت إليه رأيت نوراً مضيئاً منه. يعني أن عطاءه يصل إلى الحاضر والغائب، وكذلك بهاؤه واشتهاره لا يخفى على أحد.
كالبحر يقذف للقريب جواهراً ... جوداً ويبعث للبعيد سحائبا
يقول: هو كالبحر من حيث ينتفع به القريب والبعيد، فالقريب ينتفع بجواهره، والبعيد ينتفع بالسحائب التي تنشأ من البخار، فتحمله الريح إلى البلاد القاصية. شبهه بالبحر؛ لعموم عطاياه، وشمولها القريب والبعيد.
كالشمس في كبد السماء وضوءها ... يغشى البلاد مشارقاً ومغاربا
كبد السماء: وسطها. يقول إن عطاياه، وبهاءه، وذكره، بلغ القاصي، والداني. كالشمس فإنها تكون في وسط السماء وشعاعها يعم الأرض شرقاً وغرباً.
أمهجن الكرماء والمزرى بهم ... وتروك كل كريم قومٍ عاتبا
هجنت الرجل: نسبته إلى الهجنة، والعيب. وأزريت: إذا قصرت. والمقصر يهم بما يظهر من كرمه وتقدمه في خصاله الحميدة، ويا من يترك كل كريم قوم عاتباً عليه، لأنهم عجزوا عن شأوك. والعتب: أول الغضب.
يقول: يا من هجن عليك، لكونك فوقهم، ويجوز أن يكونوا عاتبين على أنفسهم حيث لم يكونوا مثله.
شادوا مناقبهم وشدت مناقباً ... وجدت مناقبهم بهن مثالبا
شادوا: رفعوا. والمناقب: هي الأفعال الكريمة. والمثالب: الأفعال الذميمة.
يقول: إن مناقب الناس، إذا قيست إلى مناقبك، كانت تلك المناقب كالمخازي لهم.
لبيك غيظ الحاسدين الراتبا ... إنا لنخبر من يديك عجائبا
غيظ الحاسدين: نصب؛ لأنه منادى مضاف. ونصب الراتب؛ لأنه نعت له، والراتب: الثابت ونخبر أي نعلم، ونرى ونجرب فنعلم.
كأن الممدوح دعاه، لما انتهز بما شهر من إحسانه وفضله، أو دعاه حقيقة، فأجابه. فقال لبيك يا من تغيظ الحساد، فيبقى الغيظ في قلوبهم غير زائل عنها. إنا لنعلم ونرى عجائب من يديك ضرباً وطعناً وسجناً وكناية يعجز الناس عن بلوغه، وجعل البيت، مصرعاً؛ لأنه انتقل من المديح إلى الإجابة.