اسم الکتاب : في الميزان الجديد المؤلف : مندور، محمد الجزء : 1 صفحة : 76
يدلني على قوة تصدر عن الطرب؟ الطرب شيء مبتذل لم نره قط مادة لأدب قوي، وهو بعد لا يحرك النفوس. الأدب عزاء عن الحياة، والعزاء قوة، الشعر في العالم كله ضيق بالحياة وعلاج لها، ولكنه ليس يأسا، فاليأس صمت، وموضع الإعجاز هو أن يدفعك ذلك الضيق إلى متسع الوجود، هو أن تشفي الشكوى من الألم.
وبعد ذلك بأبيات:
أصوتي ذاك قد غنى ... أقلبي ذاك قد أنا؟
كفى ندبا[1] كفى حزنا ... فقلب الطفل ما لانا
هزيز الريح ما يسمع ... وندب الروح ما أسمع
كلانا منصت يخشع ... إلى الأصوات حيرانا
ظلام الليل قد أطبق ... فنم يا طفل لا تقلق
يعود النور والرونق ... إذا ما الله أبقانا
هذا هو الهمس الذي لا أدري كيف يتهم بالضعف؟! وأنا بعد أحس فيه قوة لا أجدها في نفوس معظم شعرائها، والأمر ليس من الشاق تفسيره، فنحن قوم لصيقون بالأرض، قوم يؤثرون الاستكانة على المغامرة. لقد طوفت في الكثير من بقاع الأرض فلم أرَ مصريا يجالد غريبا على الحياة، وعدت إلى مصر ودرت ببصري فلم أرَ إلا مظلوما خاضعا لظالمه، أو متألما يخشى أن يشكو ألمه، رأيت ضعف النفاق، في كل مكان أرى رجالا قليلي الشبه بالرجال، فمن أين تأتينا القوة؟ نحن قوم لا يجسر أحدنا أن يرفع بصره إلى من يظنه أقوى منه، فكيف بنا نحدق في الحياة التي تصعق من يناهضها؟!
نحن قوم متزمتون يظنون النفاق الاجتماعي فضيلة، قوم حسيون، إذا تغزلنا جاء غزلنا إما إسفافا في الخضوع وإما "طرطشة" في العاطفة، قوم تعوزهم القوة المتماسكة، نحن قوم كثيرو الادعاء عن جهل، نكابر الغربيين، وندعي الدعاوى العريضة الباطلة، ونزج بالقومية وما إليها لتغطي جهلنا المريع، مَنْ مِنْ أدبائنا أو شعرائنا يعرف أن من واجب الأديب أن يكون مثقفا ثقافة منظمة عميقة مهضومة؟ من منهم يدرك أن الأدب ليس خلقا من العدم؟
هذه بعض الأمراض النفسية التي تفسد أدبنا، ولهذا أوثر شعر المهجر، ولقد عللت إيثاري بما في ذلك الشعر من همس، وحاولت أما استطعت أن أوضح [1] كنت أوثر ألا يستخدم الشاعر هذا اللفظ لما يثيره من تداع في الخواطر، ولكن لفظا لا يغير من روح القصيدة العامة.
اسم الکتاب : في الميزان الجديد المؤلف : مندور، محمد الجزء : 1 صفحة : 76