responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : في الميزان الجديد المؤلف : مندور، محمد    الجزء : 1  صفحة : 54
من الحياة، وليس أدل على ذلك مما نجده من صعوبة في ذلك التمثل، ونحن على ثقة من أن العباسيين لو أنهم استطاعوا نقل الأدب اليوناني وهضمه لتغير التاريخ الثقافي للعرب. ولكن كيف كانوا يستطيعون ذلك، وهم لم يقروا على غير أرسطو من الفلاسفة؟! فأفلاطون نفسه لم يعرفوه معرفة عميقة، وذلك لسبب بيِّن هو أن فلسفة أفلاطون فلسفة حيوية شعرية، من دعائمها الصور والأساطير، وتلك أشياء كانت بعيدة عن محيط العرب العقلي والشعوري، وأما أرسطو فيمثل الروح الرياضية، روح التفكير المجرد الذي يستطيع كل عقل أن يدركه.
ونحن في عصرنا الحاضر نستطيع أن نجاري التفكير الأوربي أو أن نضيف إليه إضافات حقيقية إذا اكتفينا بنقل هذا التفكير؛ وذلك لأن الفكرة التي تبنى على فكرة أخرى لا تلبث أن تنحل متعثرة في فتات المنطق، وإنما التفكير الخصب هو الذي نستمده من الحياة ونبنيه على الواقع، وعلى هذا لا يكون لنا بد إذا أردنا أن نجدد حياتنا الروحية من أن نغير من مقومات تلك الحياة واتجاهاتها وقيمها، وهذا لن يكون إلا إذا تغذينا بالآداب والفنون الأوربية من تصوير ونحت وموسيقى.
هذا الغذاء الروحي الجديد هو ما يدعونا إليه توفيق الحكيم في "زهرة العمر"، وهو بهذا يدعونا إلى مرحلة جديدة من مراحل حياتنا الروحية. ونحن لا ريب ندرك ما في هذا من مشقة، فثمة طبائع متأصلة وعادات راسخة واتجاهات نفسية عميقة، تنهض في سبيل تلك الدعوة، ونحن لا نجهل أيضا أن كافة النفوس ليست في مرونة نفس الحكيم وغيره من النفر القليل الذين أفادوا من إقامتهم بأوربا إفادة حقيقة، ومن حولنا عشرات منهم بل مئات ممن قضوا السنوات الطوال بالغرب، ثم عادوا وقد تكون برءوسهم نظريات كثيرة وآراء لا تُحصى، ولكنهم لم يتمثلوا الحياة الأوربية والإحساس الأوربي والثقافة الأوربية بمعناها الصحيح، هذه كلها صعوبات لا شك فيها، ولكننا مع ذلك غير يائسين من الوصول إلى حالة خير من حالتنا الراهنة، وأنا على تمام الثقة من أن كتاب الحكيم سيثير في نفوس قرائه تشوقا حارا للثقافة الحقيقية، وبخاصة في نفوس الشباب الذين لا يزالون في دور التكوين، وهذا هو سر انشراح صدري للكتاب.
والذي أحرص عليه في خاتمة هذا النقد هو ألا يضيق القارئ نفسا بما يحس من تبرم الكاتب بحياتنا المصرية الراهنة، فتلك حالة نفسية قد يصعب فهمها على من لم ينفذ من الثقافة الأوربية إلى مثل ما نفذ إليه الحكيم، ولكنني أؤكد -عن خبرة- أن تبرم الحكيم له ما يبرره. وما ينبغي أن نطلبه إلى الكاتب إنما هو الإخلاص والإيمان بما يقول إيمانا قلبيا. والحكيم هو ذلك الكاتب.

اسم الکتاب : في الميزان الجديد المؤلف : مندور، محمد    الجزء : 1  صفحة : 54
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست