اسم الکتاب : في الميزان الجديد المؤلف : مندور، محمد الجزء : 1 صفحة : 28
أرواح وأشباح؟ وإذا كانت فكيف نظمها خالقها؟ أهي ملحمة؟ أهي قصيدة فلسفية؟ أهي قصة؟ أهي ديوان؟ ونحن بعد لا نحرص على أية لفظة مما ذكرت، فللشاعر أو الكاتب أن يقدم لنا ما يريد، وعلينا أن ننظر فيه كما هو، وما يجوز أن يدفعنا كسلنا العقلي إلى التماس "خانة" نضع الكتاب فيها لنستريح، ولكني أظن أنه من حقنا أن نناقش وَحْدَة الكتاب.
وأنا أنظر في أوله فأراه أفلاطوني النزعة، وهذه بلا ريب أنبل النزعات، ولقد أوحت إلى أفلاطون بنثر، فيه من الشعر ما لم يتوافر للكثير من القصائد، فالشاعر يحدثنا عن صعود النفس إلى مستقرها الأول، حيث عالم الخير والحق والجمال، وينبئنا بأنها ستعود إلى الأرض فيما يشبه البعث، وهنا ستحدثنا عن:
مشاهد شتى وعتها العقول ... وغابت صواها[1] عن الناظر
وجود حوى الروح قبل الوجود ... وماض تمثل في حاضر2
وهذا موضوع رائع يبشر بملحمة فلسفية كتلك التي كتبها لوكريس الشاعر اللاتيني مثلا عن "طبائع الأشياء" ومع ذلك من منا لا يحس بالتنافر الواضح بين الوزن والموضوع؟ ومتى كان "المتقارب" من الغنى والجلال والضخامة بل طول النفس بحيث يتسع فكرة أفلاطونية؟ وهلا يذكر الأستاذ محمود طه كما نذكر جميعا كيف أن شعراء خالدين قد فشلوا في شعر الملاحم، وكان فساد إحساسهم بالموسيقى من أكبر أسباب هذا الفشل، وهلا يذكر بنوع خاص "فرنسياد" الشاعر الفرنسي المبدع "رونسار" وكيف هوت؟ وقد أجمع النقاد على أن استعمال الشاعر للبحر المكون من عشرة مقاطع بدلا من البحر الإسكندري "12 مقطعا" الذي يلائم الملاحم كان من أسباب هذا الفشل! بل ألم يفطن ابن العميد إلى وجوب اختيار الوزن والقافية اللذين يلائمان موضوع الشعر؟ "المتقارب" أهزل وأنحف وأخف من أن يحتوي فكرة فلسفية، إن فيه ما يترك في النفس فراغا ويشعرها بأن الموضوع قد ضمر وضاع جلاله.
ولقد رأيت لتلك الظاهرة شبيها عند العقاد في قصيدته "ترجمة شيطان":
صاغة الرحمن ذو الفضل العميم ... غسق الظلماء في قاع صفر
وهي قصيدة طويلة يقص فيها الشاعر حكاية ضافية عن الشيطان وسقوطه فيما يشبه "الملحمة"، وأنا لا أدري كيف اختار "الرمل" لموضوع كهذا؟! [1] الصوى: أحجار توضع كعلامات في الطريق.
2 أنا أذكر دائما خير الأبيات في نظري.
اسم الکتاب : في الميزان الجديد المؤلف : مندور، محمد الجزء : 1 صفحة : 28