اسم الکتاب : في الميزان الجديد المؤلف : مندور، محمد الجزء : 1 صفحة : 165
بنصيحته تلك على فهم عميق، فإن الجامعات والمعامل هي التي تفتح المصانع، واليوم الذي يتوقف فيه التفكير الخالص عن العمل، ستتوقف فيه المصانع؛ لأن هذه إنما تطبق التفكير الخالص الذي يبدو للجهلاء بعيد الصلة بالإنتاج المادي.
وكذلك الأمر في الأدب الخالص، فهو الذي يشحذ إدراك كاتبنا فيستطيع أن يصف التفكير الحر بأنه "هراء" وهو الذي يرهف حسه فيجعله يقدر بؤس غيره، بل هو الذي يحمله على الوعي بما هو فيه من بؤس، هو ونحن والجميع، وعندما يقف الأدب عن تقديس المعاني الخالدة من خير وجمال لن يستمع أحد لصيحات كاتبنا ولو صاغها قوية قوة كتاب "رأس المال".
ثم أي فائدة في أن نعيد ما قلناه وقاله غيرنا مئات المرات. في مصر ظلم اجتماعي في توزيع الثروات، بل في توزيع الحقوق حتى القانوني منها، وهذا ما يعرفه الصغير والكبير، في مصر إلى جانب الظلم الاجتماعي فقر عام، لا سبيل إلى علاجه بغير تعزيز الصناعة في مصر، وجهل لن يبدده إلا علم صحيح. في مصر مرض لن يقضى عليه ما لم تعالج عقلية الأطباء. في مصر أدواء كثيرة نعرفها جميعا ونعرف طرق علاجها، ولكن العلاج لن يجدي إلا إذا أعدنا التربية الخلقية لمن يقومون على ذلك العلاج، وأي نتيجة لكتابتي وكتابة غيري في كل ذلك. الأمر لا يحتاج إلى كتابة وإنما يحتاج إلى عمل، يحتاج إلى تنظيم أحزاب، وهذا ليس من شأني كرجل قد قبل أن يقف نفسه -الآن- على نشر الثقافة في حدود قدرته.
واجبي إذن هو أن أقول لكاتب المقال: إن نقد الحياة ليس معناه ما ذكرت، وإنما معناه "فهم الحياة" أي فهم النفس البشرية، ذلك الفهم الذي يغضبك أن توفر عليه قلمنا، وكل ما تكتب ليس له غاية غير هذا الفهم، سواء أكان عن خوالج نفسية أو طرائق لغوية أو موضوعات نموذجية، أو آلام وآمال خاصة.
ونحن مطمئنون إلى أن جهدنا لن يضيع سدى إذا وصلنا إلى شيء مما نريد.
وأكبر دليل على أن أرنولد لم يقصد من "نقد الحياة" إلى ما ذكرت هو أن الرجل قد أنفق جهدا كبيرا في إقناع معاصريه بضرورة دراسة القدماء وبخاصة الإغريق مما تستطيع أن تتبينه من "مقدمته" لقصائده ومن "مقالاته في النقد"، وهو يفعل ذلك لإيمانه بأن القدماء قد فهموا من النفس البشرية جانبا كبيرا، وأنهم قد صاغوا ما فهموا في جمال لا نعرف أفعل منه في تهذيب النفوس.
وأما عما نراه في تفاهة التوافر على دراسة الجاحظ وقدامة والعسكري
اسم الکتاب : في الميزان الجديد المؤلف : مندور، محمد الجزء : 1 صفحة : 165