responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : في الميزان الجديد المؤلف : مندور، محمد    الجزء : 1  صفحة : 161
قد اختار المضارع1 "تكون" على الماضي "كان"؛ لأن المضارع هنا نحس في دلالته معنى الحالة المستمرة المنسحبة من الماضي إلى الحاضر فالمستقبل، والشاعر ود عندما نبا الدهر لو تكون داره على الأهواز بنجوة، تكون حتى قبل نبو الدهر، تكون وتستمر كذلك؛ لأن الدهر قد أثبت بنبوة تلك المرة أنه قادر على الغدر في كل حين، ومن الخير أن نقدر ذلك الغدر في كل حين. وإذن المفاضلة بين الماضي والمضارع ليست مفاضلة بين ألفاظ بل بين معان، وعلى الأصح بين حالات نفسية بأكملها، ثم إن شاعرنا قد نكر "دهر" وهو بهذا يفرد الدهر فيجعله دهرا خاصا به، دهرا غدارا لا الدهر دهر الناس كافة. نبا دهر ابتلاه به القضاء المحتوم، وإذا كان تنكير الدهر، وهو الشيء الواحد المعرف بوحدته، يفيد الإفراد، فإن تنكير صاحب وأعداء ونصير يفيد الإطلاق ويشعرنا بضيق الشاعر فهو ينكر كل صاحب لما كان من غدر أولئك الصحاب، وهو يرى أن كل عدو قد سلط وأن كل نصير قد غاب، تنكير المتعدد أفاد الإطلاق، والأمر في تنكير "مقادير وأمور" يشبه تنكير "دهر" فهو يخصصهما بالشاعر ويجعلها وقفا عليه، وإذن فنحن أمام معان مختلفة وألوان نفسية متباينة ندرك بعضها بعقولنا ونحس ألطفها بقلوبنا، وهذا الإحساس هو أساس الذوق عند ناقدنا العظيم.
وتسوق فكرة النظم عبد القاهر إلى تخطي الإعراب والجملة البسيطة إلى الجملة المركبة فيكتب فصلا "في النظم يتحد في الوضع ويدق في الصنع" قال: "واعلم أن مما هو أصل في أن يدق النظر ويغمض المسلك في توخي المعاني التي عرفت، أن تتحد أجزاء الكلام ويدخل بعضها في بعض ويشتد ارتباط ثان منها بأول، وأن يحتاج في الجملة إلى أن تضعها في النفس وضعا واحدا، وأن يكون حالك فيها حال الباني يضع بيمينه هاهنا في حال ما يضع بيساره هناك، نعم وفي حال ما يبصر مكان ثالث ورابع يضعهما بعد الأولين. وليس لما شأنه أن يجيء على هذا الوصف حد يحصره وقانون يحيط به، فإنه يجيء على وجوه شتى وأنحاء مختلفة، فمن ذلك أن تزاوج بين معنيين في الشرط والجزاء معا كقول البحتري:
إذا ما نهى الناهي فلج بي الهوى ... أصاخت إلى الواشي فلج بها الهجر
ونوع آخر قول كثير:

1 يسمى هذا المضارع في نحو اللغات الأندوأوربية بالمضارع التاريخي Present historique ولقد عرف باستعماله فرجيل شاعر اللاتين في ملحمته الشهيرة "الإنيادة"؛ ولهذا للمضارع دلالات كثيرة منها مجرد إثبات حدث مطلقا من الزمن، ومنها استحضار الماضي حتى لكأنك تراه، وفي هذا برع فرجيل، ومنها إفادة الاستمرار كما في مثلنا، وفي الحق أن استعمالاته أكثر وأدق من أن تحصر أو تحد، والشعراء والكتاب قد يستعملونه لشفاء إحساس في نفوسهم أكثر من العبارة عن معنى بذاته.
اسم الکتاب : في الميزان الجديد المؤلف : مندور، محمد    الجزء : 1  صفحة : 161
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست