اسم الکتاب : في الميزان الجديد المؤلف : مندور، محمد الجزء : 1 صفحة : 106
ونحن إذ نترك النقد التاريخي إلى النقد الأدبي لا نلبث أن نعثر بأنواع من النقد التقريري الذي لا أحسبه أقل خطرا على الأدب الحي من سابقه، وهنا لا بد من التمييز بين نوعين متباينين من النقد الأدبي.
فهناك نقد الشعراء والكُتَّاب الذين نادوا بمذاهب معينة في الأدب أو الفن، هذا نوع من النقد نسميه إنشائيا ولا نعرض له بتأييد ولا تجريح، وإنما يكون مجال الحديث عنه إذا واجهنا ما يدعو إليه، فنقبله أو نرفضه تبعا لما نبغي من الأدب. فلشاتوبريان مثلا أن يفضل وحي المسيحية في نظره إلى الطبيعة على وحي أساطير اليونان، وله أن يقول: إن المسيحية قد ردت إلى الطبيعة ما بها من صمت عميق يحنو على النفس فيرفعها إلى الله، بينما ملأ اليونان حنايا الطبيعة بآلهة وربات استقرت بكل غابة وكل نبع وكل جبل وكل يم، حتى لم تعد الطبيعة معبدا مقدسا، بل حظيرة لكائنات غريبة، ولهيجو أن يدعو إلى الرومانتزم، ولغيره أن يدعو إلى غير الرومانتزم من المذاهب المعروفة في أوربا، والتي نرجو أن تنشأ عندنا يوما ما جماعات تدعو إلى مثلها وتقتتل في سبيلها عن إيمان.
وهناك نقد الأدباء والمفكرين الذي نسميه وصفيا؛ لأنه يتناول التراث الأدبي الذي خلفه الكتاب والشعراء السابقون والمعاصرون، وكل نقد من هذا النوع نقد تقرير، كما رأينا في المقال السابق، وهنا نصل إلى مشكلة النقد الأساسية.
وذلك لأنه من حقنا أن نتساءل: هل من الممكن أن نستقري مما بين أيدينا من أمهات المؤلفات الأدبية أصولا عامة للأدب على نحو ما استقرى النحويون قواعد اللغة من الاستعمال، أو استقرى الفلاسفة المنطق من مقولات اللغة؟ وهبنا استقرينا أصولا كهذه أتراها متحكمة فيما ينتج الأدباء اليوم أو سينتجون في الغد على نحو ما تتحكم قواعد اللغة أو المنطق في تعبيرنا أو تفكيرنا؟ وهل من الخير للأدب أن نقبل هذا القياس؟ بل هل من الممكن أن نقبله؟
والواقع أن لدينا طائفة من المبادئ قد استقراها النقاد بالفعل في كل فرع من فروع الأدب، ومرد الكل إلى أرسطو في كتابيه عن "الشعر" و"الخطابة" ولكنه لسوء الحظ قد حدث في الأدب ما حدث في اللغة؛ إذ جنح الناس إلى اتخاذ تلك المبادئ -التي كانت في الأصل مجرد ملاحظات- كقواعد آمرة على نحو ما نفعل في قواعد اللغة؛ إذ نحاول أن نتخذ عنانا يثني عن كل تطور، فيه لا شك إثراء للغة، كما أنه في طبائع الأشياء باعتبار اللغة أداة يستخدمها أحياء دائمو التقدم أو على الأقل التغير.
هنا يظهر سخف أصول النقد المدعاة. ولكن ذلك لا يذهب بكل قيمته، فنحن
اسم الکتاب : في الميزان الجديد المؤلف : مندور، محمد الجزء : 1 صفحة : 106