responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : في الميزان الجديد المؤلف : مندور، محمد    الجزء : 1  صفحة : 104
هذه النظرة -نظرة الفقيه ابن قتيبة- بدورها نظرة ضيقة؛ إذ من الواضح أن مادة الشعر ليست المعاني الأخلاقية، كما أنها ليست الأفكار، وأن من أجوده ما يمكن أن يكون مجرد تصوير فني، كما أن منه ما لا يعدو مجرد الرمز لحالة نفسية رمزا بالغ الأثر قوي الإيحاء؛ لأنه عميق الصدق على شخصيته، ولعلني لا أعرف لذلك مثلا خيرا من قول شاعرنا العربي الدقيق الحس ذي الرمة، وقد حط رحاله بمنزل الحبيبة وتفقدها فلم يجدها:
عشية ما لي حيلة غير أنني ... بلقط الحصى والخط في الترب مولع
أخط وأمحو الخط ثم أعيده ... بكفي والغربان في الدار وقع
فأي معنى يريد ابن قتيبة من هذه الصور الجميلة الصادقة، صورة شاعر أصابه الحزن بالذهول، فجلس إلى الأرض منهكا يائسا يخط ويمحو الخط بأصابع شرد عنها اللب، فأخذت تعبث بالرمال، وفي الغربان الواقعة بالدار ما يملأ الجو أسى ولوعة. وهل أصدق من هذا وصفا؟ وهل أقوى منه على إيحاء؟ ولعله صدقه في تناهي بساطته.
وهكذا يظهر لنا ما في نظرة ابن قتيبة من ضيق عندما يتطلب معنى في كل بيت من الشعر. كما ظهر لنا فساد رأيه في العلاقة بين اللفظ والمعنى، وفي هذا تفسير لضعف ما يسمونه ذوق هذا الناقد.
والأمر عند ابن قتيبة كالأمر عند غيره ممن نسمي منهجهم بالمنهج الذاتي، فأحكامهم القيمية تستند دائما إلى أحكام واقعية؛ بحيث نستطيع أن نخلص من هذا المقال بالنتيجة التي سبق أن عبرنا بأن الذوق ليس في الحقيقة إلا راسبا من رواسب العقل الخفية، وأن كل نقد ذاتي هو في حقيقته نقد تقريري.

اسم الکتاب : في الميزان الجديد المؤلف : مندور، محمد    الجزء : 1  صفحة : 104
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست