اسم الکتاب : شرح ديوان المتنبي المؤلف : الواحدي الجزء : 1 صفحة : 28
عنى بالضيف الشيب كما قال الآخر، أهلاً وسهلاً بضيفٍ نزلْ، واستودعُ الله الفاً رحلْ، يريد الشيب والشباب والمحتشم المنقبض المستحيي يريد أن الشيب ظهر في رأسه شائعا دفعةً من غير أن يظهر في تراخٍ ومهلةٍ هذا معنى قوله غير محتشم ثم فضل فعل السيف بالشعر على فعل الشيب لأن الشيب بيضه وذلك اقبح الوان الشعر ولذلك سن تغيره بالحمرة والسيف يكسوه حمرةً إذا قطع اللحم على أن ظاهر قوله أحسن فعلا منه باللمم يوجب أن الشعر المقطوع بالسيف أحسن من الشعر الأبيض بالشيب لأن السيف إذا صادف الشعر قطعه وإنما يكسوه حمرةً إذا قطع اللحم وقال البحتري، وددتُ بياضَ السيف يومَ لقيتني، مكانَ بياضِ الشيب حل بمفرقي، فجعل نزول السيف برأسه أحب إليه من نزول الشيب برأسه
إبعدْ بعدتَ بياضاً لا بياض له ... لأنت أسودُ في عيني من الظلمِ
يقال بعد يبعد بعداً إذا ذل وهلك وعنى بالبياض الأول بياض الشيب وبالثاني الخصال الحميدة يقول يا بياضاً ليس له بياضٌ يريد معنى قول أبي تمام، له منظرٌ في العين أبيضُ ناصعُ، ولكنه في القلب أسودُ أسفعُ، وقد قال أبو الطيب في بياض الثلج ما يشبه هذا وهو قوله، فكأنها ببياضها سوداءُ، يقول بياض الشيب ليس ببياضٍ فيه نورٌ وسرور وهو اشدّ سواداً من الظلم لما يورى به من قطع الأجل وقطع الأمل وجميع من فسر هذا الشعر قالوا في قوله لأنت اسود في عيني من الظلم أن هذا من الشاذّ الذي أجازه الكوفيون من نحو قوله أبيضُ من أختِ بني إباض وسمعت العروضي يقول اسود هاهنا واحد السود والظلم الليالي الثلاث في أواخر الشهر التي يقال لها ثلاث ظلم يقول لبياض شيبه أنت عندي واحدةٌ من تلك الليالي الظلم على أن أبا الفتح قد قال ما يقارب هذا فقال وقد يمكن أن يكون لأنت اسود في عيني كلاما تاما ثم ابتدأ بصفة فقال من الظلم كما تقول هو كريمٌ من أحرارٍ وهذا يقارب ما ذكره العروضيّ غير أنه لم يجعل الظلم الليالي
بحبِّ قاتلتي والشيبِ تغذيتي ... هواي طفلاً وشيبي بالغ الحلمِ
عني بقاتلته حبيبته يعني أن حبها يقتله والباء في بحب من صلة التغذية يقول تغذيتي بهذين بالحب والشيب ثم فسر ذلك بالنصف الأخير من البيت يقول هويت وأنا طفل وشبت حين احتلمت لشدة ما قاسيت من الهوى فصار غذاءً لي وهواي ابتداءٌ وطفلا حالٌ سدّ مسدّ الخبر كما يقال انطلاقك ضاحكا وإقبالك مسرورا وعلى هذا التقدير أيضا وشيبي بالغ الحلم والمصراع الثاني تفصيل ما إجمله في الأول لأنه بين وقت العشق ووقت الشيب
فما أمر برسمٍ لا أسائله ... ولا بذات خمارٍ لا تريقُ دمي
ارسم أثر الدار مما كان ملاصقا بالأرض والطلل ما كان شاخصا يقول كل رسم يذكرني. رسم دارها فأسأله تسليا وكل ذات خار تذكرنيها فتريق دمي
تنفست عن وفاءِ غيرِ منصدعٍ ... يومَ الرحيل وشعبٍ غير ملتئمِ
يقول تنفست عند الوداع تحسرا على فراقي عن وفاءٍ يعني في قلبها من وفاء صحيح غير منشق وفراق غير مجتمع والمعنى وحزن فراقٍ فحذف المضاف أي أنها كانت منطويةً على وفاء صحيحٍ وهم فراقٍ لا يلتئم ولا يجتمع وكان تنفسها عن هذين ويريد بالشعب الفراق من قولهم شعبته إذا فرقته ويجوز أن يريد بالشعب القبيلة ويكون المعنى عن فراق شعبٍ غير مجتمع لارتحالهم وتفرقهم في كل وجه وهي كانت تشاهد ذلك والمعنى أنا افترقنا بالاجساد لا بالفؤاد لأنها كانت معي على الوفاء
قبلتها ودموعي مزج أدمعها ... وقبلتني على خوفٍ فما لفم
أي بكينا جميعا حتى امتزجت دموعي بدموعها في حال التقبيل والمزج مصدر سمي به الفاعل يقول دموعي مازجة دموعها أي ممتزجة بها ونصب فما لأنه وضعه موضع اسم الحال كما تقول كلمته فاه إلى فيّ أي مشافها
فذقتُ ماءَ حيوةٍ من مقبلها ... لو صاب ترباً لأحيا سالفَ الأممِ
جعل ريقها ماء الحياة على معنى أن العاشق إذا ذاقه حيي به ومعنى لو صاب تربا لو نزل على تراب من قولهم صاب المطر يصوب صوبا ويجوز أن يكون بمعنى اصاب وقد ذكرناه يقول لو وقع على الأرض لأحيى الموتى من الأمم المتقدمة وأول هذا المعنى للأعشى بقوله، لو أسندت ميتاً إلى نحرها، عاش ولم ينقل إلى قابر، فنقل أبو الطيب الأحياء إلى ريقها