اسم الکتاب : خصائص التراكيب دارسة تحليلية لمسائل علم المعاني المؤلف : محمد محمد أبو موسى الجزء : 1 صفحة : 359
الحذف يفيد مع الاختصار تحاشي أن يقع الفعل "قلى" على ضمير المخاطب، وهو النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن في ذلك ما يوحش بخلاف ودعك، فليس التوديع كالقلى -وهذا مذكور في حواشي الإيضاح- وقالوا: إنه حذف لرعاية الفاصلة ولكن، وهذا القول قد رفضه كثير من البلاغيين؛ لأنه علة -كما يقولون- لفظية لا ينبغي أن تكون مقصدا في الأسلوب القرآني الذي بني على مراعاة المعاني لا الألفاظ، وهذا الذي قدمنا الإشارة إليه، وقد اقتنع به كثير من الدارسين، ومن بينهم دارسون محدثون.
والذي نعتقده أن القرآن حين يراعي الفاصلة، ويبقى على تنغيمها إنما يحفظ وسيلة من أقوى وسائله في التأثير؛ لأن رنين الكلمات وجرسها، وتوافق إيقاعاتها لغة تغلغل في النفس، والضمير وتسمو بالروح إلى آفاق قدسية، فتأخذها نشوة يحسها من يرتل هذه الآيات -كما قلنا في مثلها- ترتيلا يتهدج فيه صوته، ويتماوج مع ألحانها، ثم ينتهي إلى هذه الفواصل فيجد عندها القرار، وهذه اللغة التي نزل بها القرآن لغة دندنة، وترنم أحس أسلافنا هذه الفضيلة فيها، وقالوا: إنهم إذا فرغوا فإنهم يلحقون الألف والياء، والواو ما ينون وما لا ينون؛ لأنهم ارادوا مد الصوت.. ومد الصوت الذي يلحقون من أجله الألف في الفتح، والياء في الكسر، والواو في الضم، وسيلة من وسائل تهدئة النفس حين تمتلئ إحساسا بالفكرة، أو تختلج بألوان من الشعور، وكأنهم اتخذوا من كلمات هذه اللغة أوتارا، فكانت أشجى لحنًا، وأعذب نغما.
ومن فضول القول أن أقول: إن التموج في العبارة مظهر من مظاهر الامتلاء النفسي الدافق، يأتي هذا التموج في الأنغام حادا صاخبا إذا كان الحس الباطني من هذا النوع، ويأتي هادائا حالما إذا كان هذ الحس كذلك.
ومن الفضول أن أشير إلى الربط بين حال الأسلوب، وحال النفس في هذه الصفة؛ لأن الكلام الصادق ما هو إلا قطعة من النفس نأخذ شكل الكلام، وهذا
اسم الکتاب : خصائص التراكيب دارسة تحليلية لمسائل علم المعاني المؤلف : محمد محمد أبو موسى الجزء : 1 صفحة : 359