اسم الکتاب : خصائص التراكيب دارسة تحليلية لمسائل علم المعاني المؤلف : محمد محمد أبو موسى الجزء : 1 صفحة : 277
ولكن المذكور قد طاشت نفسه، وأفرغ لبه من هول ما يرى، فهو متخبط واله، ثم إن في ذكر الوجه هنا إشعارًا بإهانة هذه الوجوه، وذهاب أقدارها، فالوجه فيه معنى الشرف، والتقدم، ويقولون: هم وجوه يريدون بذلك السؤدد، والوجه فيه الجبين وهو متعلق المدح، ويقولون: وضاح الجبين، وكأن الثريا علقت بجبينه، وفيه العرنين والشمم، وهم يقولون: "شامخ أشم"، و"هم من العرانين والذرى"، ويريدون بذلك عظمة النفس، وعزة الضمير، وإذا كان المذكور يتقي العذاب بوجهه، فهو وجه مبتذل مهين، والمقام مقام تخويف، وترهيب، وصورة اتقاء النار بالوجه من أبلغ ما يؤثر في النفس حين تحسن تصورها، وتدبر القرآن معناه أن تجعل الصورة المضمنة في كل كلمة كأنها انخلعت من الكلمة، وصارت شاخصة بين عينيك، وهكذا كان يسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضوان الله عليهم، وهذا معنى أنهم إذا مرت بهم آية عذاب كانوا كأنهم رأوا النار، وسمعوا شهيقها وإذا مرت بهم آية نعيم رأوا الجنة ووجدوا ريحها، وهذا ما يسعى إليه الدرس البلاغي ليس في القرآن فحسب، وإنما في كل كلام صقله قائله، وهذبه ونقحه، وراجعه.
ومن هذا الباب قوله تعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [1]، أي: كمن لم يزين له سوء عمله، وهو شبيه بما تقدم، وقال: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ} ، ولم يقل: أفمن ضل ليذيع جعله وبلادة نفسه، فهو لا يميز بين الأشياء الواضح تباينها، بل إن يرى السوء حسنا، فقد فسد طبعه المميز بين الحسن والقبح، فلا عجب إذا استحب العمى على الهدى.
وهذا ما تراه حولك حين تجد ناسا كأنهم نذروا أعمارهم للقبيح وعاشوا له.
ومن أحسن مواقع الحذف ما ترى الجملة فيه بقيت على كلمة واحدة، وقد يكون ذلك في سياق قوي مجلجل، فيزداد حسن هذا الحذف، انظر إلى قوله [1] فاطر: 8.
اسم الکتاب : خصائص التراكيب دارسة تحليلية لمسائل علم المعاني المؤلف : محمد محمد أبو موسى الجزء : 1 صفحة : 277