اسم الکتاب : تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي المؤلف : شوقي ضيف الجزء : 1 صفحة : 85
لطول الحاجة ولطول وقوع البصر، مع ما يتوارثون من المعرفة بالداء والدواء1". وكانت لهم عناية خاصة بالفراسة، والقيافة وهي تتبع الأثر في الأرض والرمل، ولهم في ذلك أقاصيص طويلة، وطبيعي أن تنمو عندهم القيافة ليتعقبوا من يضل منهم في الصحراء، أو ليتعقبوا الأعداء الذين يغيرون عليهم وينهبون أموالهم ونساءهم في غيبتهم عن أحيائهم.
وهذه الضروب جميعها من المعرفة ضروب أولية، تقوم على التجربة الناقصة ولا تؤسَّس على قاعدة ولا على نظرية، فهم في جمهورهم بدو، ليسوا أصحاب علم ولا نظر عقلي مؤسس على أسلوب علمي. ولعله من أجل ذلك شاعت عندهم العيافة وهي التنبؤ بملاحظة حركات الطيور، وقد اشتهر بها بنو أسد وبنو لهب، وكانوا يتيامنون بها ويتفاءلون إن جرت يمنة ويتشاءمون إن جرت يسرة، ولهم في الطِّيَرة أحاديث كثيرة، قال الجاحظ: "وأصل التطير من الطير إذا مرَّ بارحًا "ميامنًا" وسانحًا "مياسرًا" أو رآه يتفلى وينتف؛ حتى صاروا إذا عاينوا الأعور من الناس أو البهائم أو الأعضب أو الأبتر زجروا عند ذلك وتطيروا.. فكان زجر الطير هو الأصل، ومنه اشتقوا التطير، ثم استعملوا ذلك في كل شيء.. وللطيرة سمت العرب المنهوش بالسليم والبرية بالمفازة وكنوا الأعمى أبا بصير والأسود أبا البيضاء وسموا الغراب بحاتم. والغراب أكثر من جميع ما يتطير به في باب الشؤم2" ولإيمانهم بباب الطيرة كانوا يستقسمون بالأزلام والقداح، وهي سهام، كانوا يكتبون عليها عبارات يصدرون عنها مثل الآمر والناهي والمتربص، وهي غير أزلام القمار وقداحه.
وكل هذا يدل على أن التسبيب العقلي عندهم كان ضعيفًا، وأنهم كانوا لا يحسنون ربط المسببات بأسبابها ربطًَا محكمًا، وهذا طبيعي؛ فقد كانوا في طور البداوة، فلم يكونوا يفهمون الارتباط بين العلة والمعلول وكانوا لا يتعمقون في بحث الأشياء، إنما كانوا ينظرون إليها نظرًا عارضًا أو خاطفًا. يقفون عند الجزئيات، ولا يتعلقون بمدركات كلية أو نظرات شاملة فكل ذلك لا يطوف بالدائرة التي يحيونها دائرة الحياة الفطرية الساذجة. وحقًّا شاعت عندهم الحكمة، ولكن لا بمعناها
1 الحيوان 6/ 29.
2 الحيوان 3/ 438 وما بعدها.
اسم الکتاب : تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي المؤلف : شوقي ضيف الجزء : 1 صفحة : 85