responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي المؤلف : شوقي ضيف    الجزء : 1  صفحة : 298
يثرب؛ فعاب عليه أهلها ذلك في قصيدته المذكورة؛ فلم يأبه لهم حتى أسمعوه إياه في غناء، ففطن إلى ما قالوا ولم يعد إلى ذلك[1]. ولكن القصيدة كما قدمنا مما نُحل على النابغة، فحري أن تكون القصة مثلها منحولة.
وإذا كان النابغة يُعنى بألفاظه عناية راعت السابقين فإنه يعني كذلك بمعانيه، وهي عناية أتاحت له كثرة الخواطر في اعتذارياته على الرغم من ضيق هذا الموضوع، وأيضًا فإنها أتاحت له ضربًا من ترتيب أفكاره، ويتضح ذلك في تنسيقه لموضوعات بعض قصائده؛ إذ نراه يحسن التخلص من موضوع إلى موضوع، وارجع إلى معلقته فإنك تراه يخرج من النسيب إلى وصف ناقته خروجًا تسنده المناسبة؛ حتى إذا أتم هذا الوصف قال:
فتلك تبلغني النعمانَ إن له ... فضلًا على الناس في الأدنى وفي البعدِ
وكذلك صنع في اعتذاريته العينية فإنه خرج من النسيب إلى الاعتذار خروجًا متصلًا؛ إذ قال إنه كف عن التشبيب والحب لشيبه ولما يشغله من هم، هو غضب النعمان؛ على هذه الشاكلة.
وقد حال همٌّ دون ذلك شاغلٌ ... مكان الشَّغاف تبتغيه الأَصابعُ2
وعيدُ أَبي قابوس في غير كُنْهِه ... أتاني ودوني راكسٌ فالضَّواجع
وهذه العناية البالغة بالمعاني والألفاظ كان يؤازرها عنده عنايته بالصور وما يطوى فيها من تشبيهات واستعارات، ولا نلاحظ عنده الكثرة من الصور فحسب؛ بل نلاحظ أيضًا القدرة على الابتكار ومفاجأة السامع بالأخيلة التي تخلب لُبّه، وخاصة حين يتنصل للنعمان بن المنذر من ذنبه، وحين يصور بطشه بمن يغضب عليهم مستعطفًا مسترحمًا. وكان له ذوق جيد في اختيار صوره ومعانيه جميعًا، وهو ذوق هذبته الحضارة التي نعم بها في الحيرة وبلاط الغساسنة؛ فإذا هو رقيق الحس رقة شديدة، وإذا هو يأتي في مديحه ورثائه بمعان حضارية غير مألوفة للجاهلين. وليس ذلك فحسب؛ فإنه يفتح صفحة جديدة هي صفحة.

[1] ابن سلام ص 55 وما بعدها والأغاني "طبعة دار الكتب" 11/ 10.
2 الشفاف: حجاب القلب.
اسم الکتاب : تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي المؤلف : شوقي ضيف    الجزء : 1  صفحة : 298
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست