اسم الکتاب : تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي المؤلف : شوقي ضيف الجزء : 1 صفحة : 265
وبجانب ذلك كله نجده يعنى بالتلاؤم بين ألفاظه، فقلما تلقانا فيها لفظة نابية في حروفها، وأيضًا نجد عنده عناية واضحة بموسيقاه، ولعله من أجل ذلك كان يكثر من التصريع على نحو ما صنع في المعلقة؛ فقد صرع فيها مرارًا، كما في بيته الذي أنشدناه آنفًا والذي يخاطب فيه الليل. وفي الحق أن الموسيقى تطرد في المعلقة اطرادًا، فلا نحس بنشاز، سوى الزحافات التي يكثر منها على شاكلة قوله:
فجئت وقد نَضَتْ لنومٍ ثيابها ... لَدَى السِّتْرِ إلا لِبْسَةَ المتفضِّلِ.
فإن التفعيلة الثانية في حشو البيت "مفاعلن" وليست مفاعيلن. وإذا قرأنا في المعلقة قوله:
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقبِلٍ مُدبِرٍ مَعًا ... كَجُلمودِ صَخرٍ حَطَّهُ السَيلُ مِن عَلِ
بضم لام القافية -وهذا ما يقتضيه القياس النحوي تقول: من أسفل الجبل ومن علُ، أي: من أعلاه فتضم اللام على نية حذف المضاف إليه- أصبح في البيت إقواء، وهو يكثر في الشعر الجاهلي وخاصة قديمه. وأيضًا إذا قرأنا وصفه للسيل وغثائه الملتف بجبل أبان في قوله:
كَأَنَّ أَبانًا في أَفانينِ وَدقِهِ ... كَبيرُ أُناسٍ في بِجادٍ مُزَمَّلُ
بضم اللام في كلمة "مزمل" وهو ما يقتضيه القياس النحوي لأنها صفة لكلمة كبير أناس المرفوعة أصبح في هذا البيت هو الآخر إقواء، إذا اختلفت حركة الروي، فأصبحت مرفوعة بينما هي في بقية القصيدة مجرورة. ويظهر أن هذا لم يكن يكثر عنده.
والحق أنه يعد أبًا للشعر الجاهلي بل للشعر العربي جميعه؛ فقد استوى عنده في صورة رائعة، سواء من حيث سبقه إلى فنون أجاد فيها، أو من حيث قدرته على الوصف والتشبيه، وقد مضى يعني بأخيلته ومعانيه وألفاظه مما نجده مائلًا في استعاراته وبعض طباقاته وجناساته، وبذلك أعد الشعراء من بعده للعناية بحُليٍّ معنوية ولفظية مختلفة.
اسم الکتاب : تاريخ الأدب العربي العصر الجاهلي المؤلف : شوقي ضيف الجزء : 1 صفحة : 265