مقدمة الطبعة الأولى:
باسمك اللهم أقدم بين يدي فاتحة الكتاب، وبحمدك أتقدم بين يديك إلى ما تفتح من الصواب، وبالصلاة والسلام على نبيك الحكيم أستفتح من حكمة الألباب هذا الباب؛ اللهم فاجعل لكتابي من اسمك فائدة الذكر والبقاء، واكتب له من حمدك معنى القبول والثناء، وألق عليه من أثر الحكمة بركة المنفعة والنماء.
أما بعد: فإن هذا التاريخ علم قد كثرت عليه الأيدي واضطربت فيه الأقلام، واستبقت إليه العزائم حتى عثرت بها عجلة الرأي ولجاجة الإقدام، وقد أخصب في الأوهام، حتى نفشت في واديه كل جرباء[1]؛ وامتزج أمره بالأحلام، فلم يمس كتابه علماء حتى أصبح قراؤه أدباء؛ على أنهم تجاذبوه انتهابًا فجاء واهيًا في وثيقته[2]، وتناكروه اهتيابًا فخرج ضعيف الشبه بين ظاهره حيقيقته[3]؛ وما منهم إلا من يحسب أنه أمال بالقلم يده مرخى العنان، مخلى له عن طريق السبق إلى الرهان؛ وإن للقلم لو أطلقوه لنفرة أيسر خطبها الجماح، ولكنه مذلل والطائر أهون ما يطرد إذا كان مهيض الجناح[4].
كثرت الكتب، وهي إما أعجمي الوضع والنسب، وإما هجين في نسبته إلى أدب العرب[5]، يلتفت فيها الكلام التفاته السارق إلى كل ناحية[6]، ويسرع في مرة إسراع السابق على كل ناجية[7]؛ فلا يحققون ولكن يخلدون إلى سانح الخاطر كيفما خطر[8] ولا ينقبون ولكنهم يجدون في كل حجر أصابوه معنى الأثر؛ وإذا كتبوا تاريخ الرجال فكأنهم يكتبونه على ألواح القبور[9]؛ ثم ينطلق الكتاب وفي صدره اسم "المؤلف" يسعل به كما يسعل المصدور، وهم لو علموا منطق المعاني لرأوا كلامًا كثيرًا يدعوهم أن يدعوه، وكان يرفعهم، لو أنصفوه ولم يضعوه؛ ولكنهم يأخذون في كل جانب، ويضم ما ضم حبل الحاطب[10]؛ وإنما كان العلم كالروض؛ يقصر بعض أغصانه فيسهل على كل [1] يقال في الكناية عن الخصب: نفشت العنز لأختها؛ لأنها تنفش شعرها وتنصب روقيها في أحد شقيها فتنطح أختها، وإنما ذلك من الأشر. ويقولون في أوصافهم: خلفت أرضًا تظالم معزاها أي: تتظالم. [2] ضعيف العقدة: كناية عن تراخي التأليف واضطرابه. [3] الاهتياب، والهيبة: بمعنى، وتناكر الشيء: تجاهله. [4] الاطراد: جري الشيء، والمهيض: المكسور. [5] الهجين: عربي ولد من أمة؛ والمراد استعجام نسق التأليف، كما ستعرفه في الفصل التالي. [6] كناية عن الإضطراب والأخذ من كل جهة. [7] الناجية: السريعة، وهي من صفات النوق. [8] سانح الخاطر: ما يعرض لأول وهلة وأكثر ما يكون خطأ؛ وأخلد: مال إليه، أو لزمه. [9] لا يكتب على هذه الألواح إلا الاسم والتاريخ وشيء من النسب وبعض الأشعار ... [10] من المجاز: هو حاطب ليل، للمخلط في كلامه؛ وحبل الحاطب إنما يضم التخليط.