responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : تاريخ آداب العرب المؤلف : الرافعي ، مصطفى صادق    الجزء : 1  صفحة : 244
ومادة هذا الأمر مجبولة بالكذب. فلما جاء الأخباريون بعد الإسلام أخذوا تلك الأخبار وجعلوها علمهم، وولدوا منها واحتذوا مثالها؛ لأن كل ما هو بسبيل التاريخ مما خرج عن أمر الدين، فهو عندهم في سبيل الحكاية والتلفيق وما يبتغى من القصص، ولولا اعتبارهم هذا لما بقيت الآداب العربية خالية إلى اليوم من كتاب واحد يوثق به في تأريخ العرب أو تأريخ آدابهم، وقد أشرنا إلى هذا المعنى غير مرة.
وروى الجاحظ أن بعضهم قال لأحد الرواة: إنك تكذب في الحديث! فقال: وما عليك، إذا كان الذي أزيد فيه أحسن منه؟ فوالله ما ينفعك صدقه ولا يضرك كذبه!
بخ بخ! وما يدور الأمر إلا على لفظ جيد ومعنى حسن!
هذه هي طريقتهم بعينها قبل أن تنضج العلوم وتنضب الرواية، كمخض الماء: لا يؤتي غير الماء، وقد ورثوها عن العرب أنفسهم؛ لأن العرب أمة في حكم الفرد، والفرد منها في حكم الأمة، إذ كان كل واحد منهم إنما ينهض بعبئه ولا يحمل إلا رأسه يطرحه كيف أراد، وتلك طبيعة أرضهم لا يجمعهم ولا يفرقهم إلا منفعة الفرد ومضرته, ومعلوم أن تاريخ العرب لا ينفع صدقه أحدًا ولا يضر كذبه أحدًا، إذا جعلنا مصداق النفع والضرر ما يتبينه المرء في خاصة نفسه مما يحس منه أثر النفع أو الضرر، وهل الأمر إذا رجعنا إلى هذه القاعدة إلا كما يقول الله سبحانه وتعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 134] .
هذا، وإن أكثر ما وضع من الأخبار لغير التصنيف إنما كان يراد به الملوك ومن في حكمهم، أو العامة ومن في وزنهم، فأما الملوك فإن الرواة كانوا يعرفون أنهم لا يستقصون، فيصنعون لهم الأخبار يُزلفونها إلى هوى أنفسهم ويديرون الكلام فيها على أغراضهم، ويأخذون في تلك الفنون، استعانة على السمر، وتكثيرًا للأحاديث. وكل من عرف من الرواة بأنه صاحب سَمَر كان ذلك غميزة في علمه، ومذهبًا للكلام فيه، كشرقي بن القطامي مؤدب المهدي فإنهم جعلوا السمر علته، وكان يجري في مذهب ابن دأب الشاعر الأخباري الذي كان بالمدينة، كما جرى خلف الأحمر في مذهب حماد.
وأول من عرف من ملوك الإسلام بالرغبة في السمر والتعلق بأهل الأخبار -وإن كان ذلك لمعنى سياسي- معاوية بن أبي سفيان، فقد كان داهيًا نقابًا في أموره[1], يستبين من رأيه في كل مشكل طريقًا نهجه، ويفرق له في كل معضل عن سبب إلى النفاذ صحيح، فكان يتطلب الأخبار يستعين بها على استيضاح الشبهات، ويرجع منها إلى القدوة في المعضلات، فيقال إنه كان إذا انفتل من صلاة الفجر جلس للقصاص حتى يفرغ من قصصه ثم يضطرب في أموره سائر نهاره، حتى إذا صلى العشاء الآخرة جلس لمؤامرة حاشيته فيما أرادوا، صدرًا من ليلتهم، ويستمر إلى ثلث الليل في أخبار العرب وأيامها، والعجم وملوكها وسياستها لرعيتها، وسائر ملوك الأمم وحروبها ومكايدها، وما إلى ذلك، وقد أسلفنا

[1] عرف معاوية بالدهاء منذ عرف، حتى روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لجلسائه: تذكرون كسرى وقيصر ودهاءهما وعندكم معاوية!
اسم الکتاب : تاريخ آداب العرب المؤلف : الرافعي ، مصطفى صادق    الجزء : 1  صفحة : 244
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست