اسم الکتاب : تاريخ آداب العرب المؤلف : الرافعي ، مصطفى صادق الجزء : 1 صفحة : 162
القراءات، وقال: قرأ علي أعرابي بالحرم: "طِيبي لَهُمْ وَحُسْنُ مَآب" فقلت له: طوبى ... فقال: طيبي، فأعدت فقلت: طوبى، فقال: طيبي؛ فلما طال علي قلت: طُوطُو ... فقال: طي طي ... وهكذا نبا طبع هذا الأعرابي إلا عن لحن قومه وإن كان غيره أفصح منه، ولو يؤثر فيه التلقين، ولا ثنى طبعه هز ولا تمرين!
على أن طبع العربي قد يجذبه إذا توهم القياس، ومن ذلك ما رواه صاحب "الأغاني" أن عمارة بن عقيل الشاعر "في القرن الثالث وهو الذي يقال إن الفصاحة ختمت به في شعراء المحدثين"[1] أنشد قصيدة له جاء فيها "الأرباح والأمطار" فقال له أبو حاتم السجستاني: هذا لا يجوز، إنما هو الأرواح، فقال: لقد جذبني إليها طبيعي ... أما تسمع قولهم رياح؟ فقال له أبو حاتم: هذا خلاف ذلك! قال: صدقت! ورجع إلى الصحيح, وقبله كان الفرزدق يلحن، وكان عبد بن يزيد الحضرمي البصري مغرى باعتراضه ونسبته إلى اللحن الحضري، حتى هجاه بقوله:
فلو كان عبد الله مولى هجوته ... ولكن عبد الله مولى المواليا!
فقال له الحضرمي: لحنت.. ينبغي أن تقول: مولى موال، والفرزدق هو القائل:
وعض زمان يابن مروان لم يدع ... من المال إلا مسحتا أو مجلف2
قال ابن قتيبة: وأتعب أهل الإعراب في طلب العلة، فقالوا وأكثروا ولم يأتوا بشيء يرتضى, ومن ذا يخفى عليه من أهل النظر أن كل ما أتوا به احتيال وتمويه؛ وقد سأل بعضهم الفرزدق عن رفعه هذا البيت، فشتمه وقال: علي أن أقول وعليك أن تحتجوا ... !
وبعد أن فشت العامية وغلبت على أكثر الجيل، لم يعد الأعراب الفصحاء يفهمون إلا عن أهل البصرة بسؤالهم من الرواة والعلماء، وكذلك كانوا لا يخاطبون العامة إلا بمحضرهم ومساعفتهم في "الترجمة"؛ والآثار من ذلك كثيرة نكتفي منها بما رواه الجاحظ في "البيان"، قال: رأيت عبدًا أسود لبني أسد قدم عليهم من شق اليمامة، فبعثوه ناطورًا، وكان وحشيًا لطول تغربه في الإبل، كان لا يلقى إلا الأكرة "الحراثين"، فكان لا يفهم عنهم ولا يستطيع إفهامهم، فلما رآني سكن إلي، وسمعته يقول: لعن الله بلادًا ليس فيها عرب.... أبا عثمان، إن هذه العريب في جميع الناس كمقدار القرحة في جميع جلد الفرس؛ فئلولا أن الله رق عليهم فجعلهم في حاشية لطمست هذه العجمان آثارهم!
وقد بقيت أشياء مما يصلح لهذا الباب أمسكنا عنها حتى يقتضيها مكانها في بحث الرواية. [1] وهو عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير، وكان يطرأ من البادية فتؤخذ عند اللغة.
2 قلت: المسحت، والمجلف: المذهب: الذي استأصلته السنون: والشاهد في البيت في رفع "مجلف" وقياس العربية النصب.
اسم الکتاب : تاريخ آداب العرب المؤلف : الرافعي ، مصطفى صادق الجزء : 1 صفحة : 162