الخطباء الذي أعجز الجاحظ وهو ما هو، إلا جزءًا مما يجب من التدبير في أصول التاريخ كله إذا وسعنا في الكثير ما ضاق عنه في القليل؛ ولكن الذي ينظر أمامه إلى حد، فلما ينتبه إلى مقدار ما وراءه مما لا يحد.
وعلى هذه السبيل وضعت الكتب في "تاريخ أدبيات اللغة العربية"؛ فقد تصوروا حدودًا معينة من الزمن، لا يلبث أحدهم أن يمد إليها قلمه حتى يتجاوزها ويكاد يؤرخ ما في الغيب أيضًا.
وقد رأينا لتاريخ لحضارة في كل أمة راقية أربعة أبواب متفرقة على أركانه: وهي الأدب، والسياسة، والدين، والعلم فتلج الأمة في باب الأدب إلى نوع الكمال في عواطفها، ومن باب السياسة إلى مبلغ القوة في كيانها، ومن باب الدين إلى درجة السعادة في أنفسها، ومن باب العلم إلى ما تعز به في مجتمعها من هذه الثلاث. بيد أن تلك الأركان لا تستوي في جميعها ضعفًا وقوة، ولا في اعتماد أصل التاريخ على بعضها دون بعض؛ فقد كانت دعامة التاريخ العربي في قيامه أدبية محضة، ثم جاء الدين فاستتبع السياسة والعلم، لا جرم كان للأدب عندهم تاريخ خاص لا يمتزج بالدين ولا بالسياسة ولا بالعلوم، إلا من جهات معلومة تعرف بها وجوه الاتصال بين أجزاء تاريخهم في جملته وإفضاء بعضها إلى بعض في المخالطة والارتباط.
وبديهي أن تعاقب ثلاثة عشر قرنًا من تاريخ الأدب الإسلامي لم ينشىء لغة أفصح مما نطقت به العرب قبل ذلك، ولا جاء بشعر يباين أشعارهم في الجملة، ولا جعل لأدبائنا مذاهب متميزة في تكوين الدين والسياسة والعلم، بل ليس في تعاقب تلك العصور الأدبية على الأغلب إلا موت رجال وقيام رجال، وإلا أمور عرضية مما يترك في مادة الأدب آثارا قليلة تدلل على اختلاف القرائح وتباين الغرائز في أولئك الرجال قاموا عليه، وتاريخها متعلق بمواقع رجالها من طبقات الزمن؛ ثم هي من قلتها بحيث لا تبلغ إلا أن تلوي عليها بعض عرى التاريخ ويبقى سائره على تفصيله الذي أشرنا إليه آنفًا.
إذا تدبرت هذا وأنعمت على تأمله، علمت السبب في حشو ما تراه من كتب الأدبيات التي ترتب على العصور بالطم والرم[1] من تاريخ العلوم الدينية والدنيوية، وبالتراجم الكثيرة التي تخرج بشطر الكتاب إلى أن يكون سجل وفيات، ثم بتعداد الكتب والمؤلفات التي تلحق شطره الآخر بكتب الفهرست. ومؤلفو هذه الكتب لا يدرون أنهم مرغمون على ذلك بحكم هذه الطريقة العقيمة التي تتبنى ولا تلد؛ إذ ليس في تفتيش القبور عن بقايا الحياة إلا العظام، ومن يرجع إلى ورائه لا يقطع شيئًا إلى الأمام!
ثم هم يجهلون أن لتاريخ كل أمة تباين غيرها مباينة طبيعية مزاجًا معنويا تتعلق به حوادثها، كما تتعلق أخلاق الفرد بنوع مزاجه الفطري؛ ومن أين يكون للعصبي في أبواب التحمل والأناة والسعة والخفض ما يكون لذي المزاج الليمفاوي مثلًا؟ فأيما امرؤ أجرى على الاثنين حكمًا واحدًا ظلمهما [1] كل ما لا يراد منه إلا الكثرة.