اسم الکتاب : المستجاد من فعلات الأجواد المؤلف : التنوخي، المحسن بن علي الجزء : 1 صفحة : 48
أيها الملك أسعدك إلاهك، وساعدك زمانك. إنما تستحسن هذه إذا كانت في يد تاجرها، وأما إذا كانت على الملك، وتهلل وجهه المشرق فيها، فالأبصار مقصورة عليه دونها، فاسترجح عقله واستحسن ما أتى به، فعرض للنعمان خالد بن بشر بالتماسها. فقال النعمان: أنا أفكر ليلتي وأدفعها غداً إلى من أرى أنه سيد العرب، فانصرفوا وكل طامع مهموم. فلما كان من غد تزينت وجوه العرب وغدت إلى باب النعمان، تسحب أذيالها وتنظر في أعطافها، وكل يرى أنه صاحب الحلة، وتأخر أوس بن حارثة. فقال له أصحابه: ما لك لا تغدو إلى دار الملك فلعلك تكون المسود في العرب بأخذها فيتم فخرك: فقال أوس: يا سبحان الله إن كنت سيد قومي فلست بسيد طبقات العرب عند نفسي، وإنما وعد الملك أن يدفع الحلة إلى سيد العرب ولست أعرفه مني ولا من غيري، إلا أن الملك أولى برأيه. فإن أنا حضرت ولم آخذها انصرفت منقوصاً مهموماً، وإن كنت المطلوب فسيرسل إلي، فأمسكوا عنه مستعجزين لرأيه. قال: ونظر النعمان في وجوه الجماعة ففقد أوساً فوقع له ما فكر فيه. فاستدعى بعض بطانته وأنفذه كالمتعرف خبره من غلمانه، فأعيد عليه ما قال. فأعاده على النعمان فقال: امض إليه وقل له الملك يستبطئك على تأخرك، واستدعه فحضر يومه ذاك في الثوب الذي حضر فيه أمسه. وكانت وجوه العرب سرت بتأخره ولاستشعارها أن الملك كان يدفع إليه الحلة لو حضر. فلما أخذ مجلسه من حضرة النعمان رفعه وقدمه ثم مد يده إليه وقال: أراك لم تغير ثوبك في يومك فالبس هذه الحلة لتتجمل بها بين من تجمل من أصحابك، فلبسها، فحسدته وجوه العرب وقالوا ليس يخفض رافعته غير الهجاء وليس له مثل جرول، فكلموا جرولاً فقال: لا سبيل عندي إليه وكيف أهجو رجلاً حسيباً لا ينكر بيته كريماً لا يغب عطاؤه، فاضلاً لا يطعن على رأيه، شجاعاً لا يصطلى بناره، محسناً لا أرى في بيتي شيئاً إلا من أفضاله. ثم قال:
كيف الهجاء وما تنفك صالحة ... من آل لأم بظهر الغيب تأتيني
قال: فسمع بشر بن أبي خازم " أحد بني أسد بن خزيمة " بذلك فرغب في البذل وعزم أن يهجوه فجعلوا له ثلاثمائة بعير أو شبيهاً بها فهجاه. فوجه أوس إلى أبله التي استعجلها وما كان له قبلها، فطردها وحصلها عنده، وطلبه ليقتله فهرب من يده، وجعل يطلب عزيزاً يستجير به فلا يقصد أحداً إلا قال له: أجيرك من كل الناس إلا من أوس بن حارثة، فإني ما أحب عداوته. فبينا هو يدور وقد أذكى أوس العيون عليه، إذ رآه بعض من كان يرصده فقبض عليه وحمله إلى أوس. فلما حصل في يد مشاور أمه سعدى فيه، وكان قد هجاها فأكثر. وقال أي قتلة تحبين أن أقتله؟ قالت: كلا والله يا أوس إن قتلته ليثبتن قوله كالنقش في الصخر، وليس يمحو هجاءه عنك إلا مديحه لك، فامنن عليه واطلقه، واردد عليه ما أخذ له. فعلم أن الصواب ما أشارت به، وأحضره وقال له: ما ترى إني صانع بك؟ قال: تقتلني. قال: أنت مستحق لذلك مني لكن سعدى رقت لك واشارت علي فيك بامر وأنا فاعله، ثم أمر به. ففك عنه ورد عليه إبله وزاد عليها من عنده، وكساه وحمله، وقال له: انصرف إلى أهلك راشداً. قال: فرفع بشريده وطرفه إلى السماء ثم قال: اللهم اشهد على بشر أنه لا يمدح أحداً غير أوس بن حارثة ما مددت له في العمر. قال: فمدحه بعدة قصائد هي ثابتة في ديوانه. ومن قوله:
إلى أوس بن حارثة بن لأم ... ليقضي حاجتي فيمن قضاها
إذا ما راية رفعت لمجد ... أقاموها ليبلغ منتهاها
فما وطي الحصا مثل ابن سعدى ... ولا لبس النعال ولا احتذاها
حكاية
اسم الکتاب : المستجاد من فعلات الأجواد المؤلف : التنوخي، المحسن بن علي الجزء : 1 صفحة : 48