responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : العقد المفصل المؤلف : الحلي، حيدر    الجزء : 1  صفحة : 65
وقال الصاحب بن عباد: حضرت مجلس ابن العميد عشيّة من عشايا شهر رمضان وقد حضره الفقهاء والمتكلّمون للمناظرة وأنا أذكر ذلك في ريعان شبابي، فلمّا تقوّض ذلك المجلس وانصرف القوم وقد حلّ الإفطار أنكرت ذلك بيني وبين نفسي وعجبت من إغفال الأمر بتفطير الحاضرين مع رياسته، وعاهدت الله تعالى أنّيى لا أخلّ بما أخلّ به إذا قمت مقامه.
قيل: فكان الصاحب لا يدخل عليه في شهر رمضان بعد العصر أحد كائناً من كان فيخرج من داره إلاّ بعد الإفطار، فكانت داره لا تخلو ليلة من ليالي الشهر من ألف نفس مفطرة، وكانت صلاته وصدقاته وفقته في هذا الشهر مبلغ ما يطلق منها في جميع السنة.
وممّا يناسب هذا ما ذكر عن ابن العميد؛ وابن العميد هذا هو أبو الفضل محمّد بن العميد، كان فريد زمانه في الفصاحة والعلوم العربيّة، ولقد كان متوسّعاً في علم النجوم والفلسفة والأدب والترسّل، فلم يقارنه فيها أحد في زمانه، وكان يسمّى الجاحظ الثاني، وكان كامل الرياسة، جليل المقدار، ومن بعض أتباعه الصاحب بن عباد، ولأجل صحبته قيل له الصاحب، وكانت له في الرياسة اليد العليا.
وقال الثعالبي في اليتيمة: كان يقال: بدئت الكتابة بعبد الحميد وختمت بابن العميد.
وكان الصاحب بن عباد سافر إلى بغداد، فلمّا رجع إليه قال له ابن العميد: كيف وجدتها؟ قال: بغداد في البلاد كالأُستاذ في العباد.
وكان يقال له الأُستاذ والرئيس وكان سائساً مدبّراً للملك قائماً بحقوقه.
وقصده جماعة من مشاهير الشعراء من البلاد الشاسعة ومدحوه بأحسن المدائح كأبي الطيب المتنب وأضرابه، وكان ممّن مدحه أبو نصر عبد العزيز بن نباتة السعدي، وكان ابن نباتة هذا قد ورد على ابن العميد وهو بالريّ، وامتدحه بقصيدة أوّلها:
برح اشتياق وادّكار ... ولهيب أنفاس حرار
ومدامع عبراتها ... ترفضُّ عن نوم مطار
لله قلبي ما يجن ... من الهموم وما يواري
لقد انقضى سكر الشباب ... وما انقضى وصب الخمار
وكبرت عن وصل الصغار ... وما سلوت عن الكبار
سقياً لتغليسي إلى ... باب الرصافة وابتكاري
أيّام أخطر في الصبا ... نشوان مسحوب الإزار
حجّي إلى حجر الصّرا ... ة وفي حدائقها اعتماري
ومواطن اللذّات أو ... طاني ودار اللهو داري
لم يبق لي عيش يلذّ ... سوى معاقرة العقار
حتّى بألحان قمرت ... بهنّ ألحان القماري
وإذا استهلّ ابن العميد ... تضائلت ديم القطار
حرّ صفت أخلاقه ... صفو السبيك من النضار
فكأنّما زفّت موا ... هبه بأنواع التجار
وكأنّ نشر حديثه ... نشر الخزامى والعرار
وكأنّنا ممّا تفرّق ... راحتاه من النضار
كلف بحفظ السرّ تح ... سب صدره ليل السرار
إنّ الكبار من الأمو ... ر تنال بالهمم الكبار
وإلى أبي الفضل ابتعثت ... هواء حسناء السوار
فتأخّرت صلته فشفّع هذه القصيدة بأخرى وأتبعها برقعة فلم يزده ابن العميد غير الإهمال مع رقّة حاله التي ورد عليها فتوصّل إلى أن دخل يوم الخميس ومجلسه حفل بأعيان الدولة ومقدّمي أرباب الديوان، فوقف بين يديه وأشار إليه وقال: أيّها الرئيس! إنّي لزمتك لزوم الظل، وذللت لك ذلّ النعل، وأكلت المحرق انتظاراً لصلتك ووالله ما بي الحرمان، ولكن شماتة قوم نصحوني فأغششتهم، وصدّقوني فاتّهمتهم، فبأيّ وجه ألقاهم؟ وبأيّ حجّة أُقاومهم، ولم أحصل من مديح ومن نثر بعد نظم إلاّ على ندم مؤلم، ويأس مسقم، فإن كان للنجاح علامة وأين هي وما هي؟ إلاّ أنّ الذين نحسدهم على ما مدحوا به كانوا من طينتك، وإنّ الذين هجوا كانوا مثلك، فزاحم بمنكبك أعظمهم شأناً، وأنورهم شعاعاً، وأشرقهم دفاعاً. فحار ابن العميد ولم يدر ما يقول، فأثرق ساعة ثمّ رفع رأسه وقال: هذا يضيق عن الإطالة منك في الإستزادة، وعن الإطالة في المعذرة، وإذا ما تواهبنا ما دفعنا إليه، إستأنفنا ما نتحامد عليه.

اسم الکتاب : العقد المفصل المؤلف : الحلي، حيدر    الجزء : 1  صفحة : 65
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست