اسم الکتاب : الساق على الساق في ما هو الفارياق المؤلف : الشدياق الجزء : 1 صفحة : 30
السجع للمؤلف كالرجل من خشب للماشي. فينبغي لي أن لا أتوكأ عليه في جميع طرق التعبير لئلا تضيق بي مذاهبه. أو يرميني في ورطة لا مناص لي منها. ولقد رأيت أن كلفة السجع اشق من كلفة النظم. فإنه لا يشترط في أبيات القصيدة من الارتباط والمناسبة ما يشترط في الفقر المسجعة. وكثيرا ما ترى الساجع قد دارت به القافية عن طريقه التي سلك فيها حتى تبلغه إلى ما لم يكن يرتضيه لو كان غير متقيد بها. والغرض هنا أن نغزل قصتنا على وجه سائغ لأي قارئ كان. ومن أحب أن يسمع الكلام كله مسجعا مقفى ومرشحا بالاستعارات ومحسنا بالكايات فعليه بمقامات الحريري أو بالنوابغ للزمخشري. فنقول إن صاحبنا الفارياق بعد إقامته مدة على الحالة التي ذكرناها جرى بينه وبين جده من النزاع والمناقشات ما أوجب عليه ترك ما كان فيه واقتفاء طريق آخر من طرق المعاش. فتاح له أن يكون معلما لإحدى بنات الأمراء وكانت ذات طلعة بهية. وشمائل مرضية. تامة الظرف. ناعسة الطرف ولكن ليس المراد بذلك إنها كانت لا تبصر من يحبها كما يكون من به نعاس. وإنما المعنى أنها ذابلته. حتى ولا هذه العبارة مفصحة بما أريد أن أقوله. فإنها توهم إنها كانت ذابلة مع أنها كانت غضة بضة. بل المقصود أن نقول إنها كانت كأنها تنظر عن تحشيف. ولكن مادة حشف لا تعجبني فإن فيها معاني اليبوسة والخساسة والرداءة وشيء آخر تجل الملاح عن ذكره. بل المراد أنها كانت تكسر جفنيها عند النظر. ولا الكسر أيضاً لائق لها. فلا أدري كيف ألحن للقارئ ما أردت. ولعل الأوفق أن يقال أنها كانت ترمي بسهام عن عينها. ولم يكن سنها مانعاً من تتبيل من ينظرها. فأن القلب يعلق بهوى الصغيرة الجداء كما يعلق بهوى الكبيرة الوطباء. إذ ليس كل عشق مؤديا إلى الدعارة. فقد عشق الناس الرسوم والأطلال والآثار. والأشكال والديار. ومنهم من عشق لرؤيته كفاً مخصباً أو عقيصة شعر أو ثوبا أو سراويلات أو تكة أو نحو ذلك. وأعرف من أحب هرة امرأة فكان يلاعبها. ويخيل له الغرام أنه ملاعب صاحبتها. وكثيرا ما كانت تنشب فيه أظفارها وتدميه. وهو يستعذب ذلك ويستحليه. أما لاستعذاب العذاب في هوى المحبوب. أو لاعتقاده أن مداعبة النساء أيضا لا تخلوا من خدش أو دماء. فكون الجرح منهن أصالة أو وكالة إنما هو شيء واحد. وقد سئل أحد العشاق عن مبلغ الوجد منه فقال كنت أرتاح للريح إذا مرت على نتن مقبلة من صوب المحبوب. هذا وأن عشق أهل تلك البلاد أكثره على هذا النمط. أي أن العاشق منهم يكلف بأثر من محبوبه كمنديل أو زهرة أو رسالة وخصوصا بنصة شعر فيشمه ويضمه ويقبله ويعانقه كما قيل
الشعر مثل الشَّعر داعية الهوى ... والشَّعر مثل الشعر ذخر يذخر
من غاب عنك فلست تنظره سوى ... بالشعر وهو الأكثر
فإن قيل أنهم إنما عشقوا ذلك طمعا في وصال الحبيب الذي تفضل بهذه النعم لا كلفا بها من حيث هي هي. قلت ما المانع من أن تعشق الصغيرة طمعا في أن تصير كبيرة. ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل. وربّ أمل أحلى من فوز. وقد علم أهل الدراية أن من حرمه الله من الجمال لغاية لا يعلمها إلا هو عوضه عنه زيادة قصاص له بحدة الفكر والبصيرة وشدة التصور والتخيل ودقة الحدس فيكون أسرع إلى العشق وأكثر حرصا على أهل الجمال إذ الإنسان كلما بعد الشيء المقصود كان توقانه إليه أكثر وتولعه به أشدَّ. والمراد من ذلك كله أن نقول أن الفارياق كان يعلم من صغره إنه بمعزل عن الجمال. وإنه من صبائه كان يعظم أهله ويميزهن على غيرهن وإن القبيح معذور على عشق المليح كما قال الشاعر:
وقالوا يا قبيح الوجه تهوى ... مليحا دونه السمر الرقاق
فقلت وهل أنا إلا أديب ... فكيف يفوتني هذا الطباق
اسم الکتاب : الساق على الساق في ما هو الفارياق المؤلف : الشدياق الجزء : 1 صفحة : 30