responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : الساق على الساق في ما هو الفارياق المؤلف : الشدياق    الجزء : 1  صفحة : 192
لما رأى الخرجي أن سكناه في بيروت لا تصلح لجسمه ولا لرأسه عزم على الشخوص منها إلى الجبل. فألقي في روعه أن يسكن في دير للروم. فسار بزوجته وبالفارياق فأقاموا في قرية تحت الدير يومين. وكان يأنس بالفارياق بعض الحسان منها ويواكلنه. فلما علمت إحداهن إنه صاعد في الغد إلى الدير طفقت تبكي. فكأنما ظنت إنه نوى الرهبانية. فظهر له إنها خالفت عادة النساء لأنهن يحببن الرهبان أكثر من العامة. فإن فتنة النساك العباد تتوقف على روم وكيد أبلغ وهو مما يلذ النساء أو بالعكس. حتى إذا رأينهم طوعاً لهن رجعن بعد ذلك إلى ما كنَّ عليه ليختبرن جميع ضروب الحبّ فلا يفوتهن منه شيء والحاصل أن الفارياق بُكي على فراقه هذه ثاني مرة في عمره حتى صار يحسب في عداد المحبوبين. وإنه ذهب في الغد إلى الدير واتخذ له فيه صومعة بلا قفل ولا مفتاح فصار من جماعة باعرْ باي "الذين ليس لأبوابهم إغلاق. قلت وهو بناء غريب" وكان ذلك الدير منتابا لجميع أهل القرى المحيطة به. فإنهم كانوا يودعون فيه أمتعتهم خوفاً من هجوم العساكر المصرية عليهم. لأن الدير حرم آمن.
وكانوا إذا جاءوا إليه يدخلون جميع الصوامع من غير محاشاة ومن جملتها صومعة الفارياق. فكانوا إذا وجدوا على فراشه أوراقاً فيها تفسير حلم أو غيره تلفقوها وقرءوها. فمنهم من كان يفهم منها قدر ما يدور به لسانه. وآخر قدر ما يدور به رأسه. وآخر قدر ما يدور به جسمه كله فيوليه ظهره ويخرج. ومنهم قدر ما تدور به يده فيرفعها ليبطش بالكاتب والمكتوب معاً. ومنهم من كان يسخر منها ويقول إنما هي أضغاث أحلام. ومنهم من كان يقول إنها لا تصلح لوقت الحرب ولم يجد منهم من استحسنها. وكان يدخل أيضاً مع هؤلاء الدامقين دامقات فيهن من يحب تلقيها بأهلا وسهلا ومرحبا. وفيهن من تجدر بواحد من ذلك فقط. وفيهن من تجدر باثنين مواترة. وفيهن من لا تصلح لشيء.
وكل ذلك كان يمكن تحمله إذا حُمل بعضه على بعض. إلا الجوع الذي تسبّب عن تعطيل الطرق فإنه كان لا يطاق. مع أن الفارياق كان قد خرج من عناء سفر البحر الذي مناه بالصيام أياماً متوالية. فكان لا بدّ له من اللمج فمن ثم كان يذهب إلى القرية وينادي يا من عندها دجاجة للبيع فتبيعني إياها. فكان بعض النساء يجبنه هذه الدجاجة السارحة مع الدجاج في الحقل أريد بيعها. فإن أردتها فاسع إليها واقبضها بيدك. فكان يسعى وراء الدجاج ويطفر معها على الجدران. فإن ساعده الحظ على كسر ساق إحداها أو إعيائها قبض عليها. وكان عند جريه وراءها يجري معه خاطره فيقول في نفسه.. أنا اجري الآن وراء دجاجة فهل زوجتي تجري في الجزيرة وراء ديش.
وينبغي لي أن أقف قليلاً عند هذا الجري وأقول. قد ذكرت سابقاً إن الفارياق كان ذا هَوَج ونزق وجزع. فكان من طبعه إذا غاب عن أهله أن لا يزال يقابل حاله بحالهم بالمقابلة الاطّرادية وبالمقابلة الامتيّة. مثال الأولى قوله أنا اجري وراء دجاجة فهل زوجتي وراء ديش. وقوله مثلاً وهو لابس هل هي في هذا الوقت عريانة. وفي حالة كونه قائماً هل هي الآن مضطجعة. وقس على ذلك. ومثال الثانية أنا اجري الآن وراء دجاجة فهل يجري وراءها ديش.
على أن خبز الدير والقرى ح كان مخلوطا بالزؤان. فكان الفارياق إذا أكل منه خيّل له انه لم يزل في السفينة عرضة للتنانين. ويتأكد عنده ذلك بدخول أحد الرهبان عليه وهو تلك الحالة. فلما ضاق بها ذرعاً نظم أبياتاً وبعث بها إلى رئيس دير غير الدير المذكور وكان يظن أن عنده غناء. وهي:
ليت شعري ماذا يفيد البيان ... مع خواء البطون والتبيان
وفنون البديع من غير أكْل ... تستشيط اللهى بها واللسان
هاك ألف استعارة برغيف ... وبخسّ تخس تفتازان
أيها المعربون هبّوا فما من ... ضرب زيد عمرا يرص الخوان
أين أين الكباب والرز والبر ... غل تصغوا من فيضهن الجفان
ذهبت دولة الطبيخ وجاءت ... نوبة الجوع أمّها لبنان
يالها من معرة نبعث الدنيا ... ر ما إن يعبا به إنسان
ليس بيع ولا شراء بأرض ... قد قضى عيشها وعاش الزوان
طال مكثي في الدير حتى كأني ... راهب لا ترضى به الرهبان
إذ رأوني وحولي الكتب وألاق ... لام مَّما عنه نهى المطران

اسم الکتاب : الساق على الساق في ما هو الفارياق المؤلف : الشدياق    الجزء : 1  صفحة : 192
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست