اسم الکتاب : الرسائل المؤلف : الجاحظ الجزء : 1 صفحة : 249
وإذا أنا نظرت فيها وانا جالسٌ سدرت عيني، وتقوس ظهري، واجتمع الدم في وجهي، وأكرهت بصري على غير جهته، وأجريت شعاع ناظري في غير مجراه.
وقد علمت - أبقاك الله - مع خبرتك بمقابح الأمور، ومواقع المنافع والمضار، ثم بمصالح العباد والبلاد، أنّ من كان على مقطع جبل، أو على شرفات قصر، فأراد رؤية السماء على بعدها، وجد ذلك على العين سهلا خفيفاً، وإن أراد أن يرى الأرض على قربها، وجد ذلك على العين عبئاً ثقيلاً. فإن بدا لي أن يقابل عيني به العبد، أو تواجهني به الأمة، كلفت أخرق الناس كفّاً، وأقلهم وفقاً، وأكثرهم التفاتا، واحضرهم نعاسا، وأقلهم على حالٍ واحدة ثباتاً، وأجهلهم بمقدار الموافقة، ولمقادير المقابلة، وبحطِّ اليد ورفعها، وإمالتها ونصبها. ثم رأيت في تضجُّرهم وتكرههم وفرارهم منه، ما صيَّر تجشُّمي لثقل وزنه، ومقاساتي لجفاء حجمه، أهون على يدي، وأخف على قلبي. فإن تعاطيته عند ذلك بنفسي فشقاءٌ حاضر، وإن ألزمته غيري فغيظٌ قاتل. وحتى صارت الحال فيها داعيةً إلى ترك درسها والمعاودة لقراءتها، مع ما كان فيها من الفائدة الحسنة، والمنافع الجامعة، ومن شحذ الطبيعة، وتمكين حسن العادة.
ولو لم يكن في ذلك إلا الشغل عن خوض الخائضين، والبعد عن لهو اللاهين، ومن الغيبة للناس والتمنِّي لما في أيديهم، لقد كان نفع ذلك كثيراً، وموقعه من الدِّين والفرض عظيما.
اسم الکتاب : الرسائل المؤلف : الجاحظ الجزء : 1 صفحة : 249