اسم الکتاب : نتائج الفكر في النحو المؤلف : السهيلي الجزء : 1 صفحة : 24
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الكتاب: نتائج الفكر في النَّحو للسُّهَيلي
المؤلف الإمام / أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله السُّهَيلي (المتوفي 581 هـ)
الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت
الطبعة الأولى: 1412 - 1992 م
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
* * *
من لطائف هذا الكتاب
قال المؤلف - رحمه الله -:
مسألة
واستشهد أيضا بقوله سبحانه:
(اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)
وفي هذه الآية ضروب من الأسئلة، منها أن يقال:
ما فائدة البدل في الدعاء، والداعي مخاطب لمن لا يحتاج إلى البيان، والبدل
يقصد به بيان الاسم الأول؟
ومنها أن يقال: ما فائدة تعريف الصراط المستقيم بالألف واللام، وهلَّا أخبر
بمجرد اللفظ دونهما، كما قال: (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) ، وكما قال: (وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) .
ومنها أن يقال: ما معنى الصراط؟
ومن أي شيء اشتقاقه؟ ولم جاء على وزن فعال؟
ولم ذكر في أكثر المواضع في القرآن بهذا اللفظ.
وذكر في سورة الأحقاف بلفظ الطريق، فقال: (يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) ؟
ومنها أن يقال: ما الحكمة في إضافته إلى (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)
بهذا اللفظ، ولم يقل: النبيين ولا الصالحين، وجاء باللفظ مبهماً غير مفسر؟
ومنها أن يقال: لم عبر عنه بلفظ " الذين " موصولة بصلتها، وقد كان أوجز
وأخصر أن يقال: المنعم عليهم، إذ الألف واللام في معنى الذي، كما قال:
(المغضوب عليهم) ولم يقل: " الذين غضبت عليهم؟ ".
ومنها أن يقال: لم وصفهم بـ (غير) ، وقد كان الظاهر أن يقول هاهنا
" لا المغضوب عليهم "، كما تقول: " مررت بزيد لا عمرو، وبالعاقل لا الأحمق ".
ومنها أن يقال: لم استحق اليهود دون النصارى اسم المغضوب عليهم.
والمغضوب عليهم أيضاً النصارى؟
ولم استحق النصارى اسم (الضالين) ، وقد ضلت اليهود؟
ومنها أن يقال: لم قدم (المغضوب عليهم) على (الضالين) في اللفظ؟
ولم جاء لفظ (الضالين) على وزن " الفاعلين "، ولم يجئ على وزن
" المفعولين "، كماجاء ما قبله، من قوله تعالى: (المغضوب عليهم)
ومن قوله: (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ، لأن معناه: المنعم عليهم، بلفظ المفعول؟.
ومنها أن يقال: ما فائدة العطف بـ " لا " من قوله: (ولا الضالين) .
ولو قال: (الضالين) ، لما اختل الكلام، وكان أوجز؟
ولم عطف بـ " لا "، وهي لا يعطف بها
مع " الواو " إلا بعد نفي، ولو كانت وحدها لعطف بها بعد إيجاب، كقولك: مررت بزيد لا عمرو؟.
والجواب عن السؤال الأول، وهو: ما فائدة البدل في الدعاء؟
أن الآية وردت في معرض التعليم للعباد الدعاء، وحقُّ الداعي أن يستشعر عند دعائه ما يجب عليه اعتقاده مما لا يتم الإيمان إلا به.
إذ " الدعاء مخ العبادة ".
والمخ لا يكون إلا في عظم، والعظم لا يكون إلا تحت دم ولحم، فإذا وجب إحضار معتقدات الإيمان عند الدعاء، وجب أن يكون الطلب ممزوجاً بالثناء، فمن ثم جاء لفظ الطلب: للهداية ولفظ الرغبة مشوبا بالخير تصريحاً من الداعي به بمعتقده، وتوسلاً من الداعي بذلك
المعتقد إلى ربه، فإذا قال: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) .
والمخالفون للحق يزعمون أنهم على الصراط المستقيم أيضا، والداعي يجب عليه اعتقاد خلافهم وإظهار الحق الذي في نفسه، فلذلك أبدل وبين ليمرن اللسان على ما اعتقده الجنان، فأخبر مع الدعاء أن الصراط المستقيم هو صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين.
لا من خالفهم من الكافرين.
وأما تعريف (الصِّرَاط) بالألف واللام، فإن الألف واللام إذا دخلت على اسم موصوف اقتضت أنه أحق بتلك الصفة من غيره، ألا ترى قولك: جالس فقيها أو عالما، ليس كقولك: جالس الفقيه أو العالم؟
ولا: أكلت طيباً، كقولك: أكلت الطيب؟
ألا ترى إلى قوله عليه الصلاة والسلام:
" أنت الحق ووعدك الحق "، ثم قال: " ولقاؤك حق والجنة حق، والنار حق "، فلم يدخل الألف واللام على الأسماء المحدثة، وأدخلها على اسم الباري - سبحانه وتعالى - وما هو صفة له، وهو القول والوعد.
فإذا ثبت هذا فلو قال: " صراطاً مستقيماً " لكان الداعي إنما يطلب الهداية على صراط مستقيم على الإطلاق، وقد علم أنه على صراط مستقيم وهو الإسلام، فإنما يطلب ما هو أقوى من طريقته التي هو عليها في علمه، لأن كل فريق من المسلمين
مستقصر لنفسه في العمل، وراغب إلى ربه، في التوبة والهداية إلى الأفضل، حتى ينتهي الأمر إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - فيقولها أيضاً، لأنها أخوف لربه، وأكثر استقصاراً لعمله، وكان يستغفر ربه - عز وجل - ويتوب إليه في اليوم مائة مرة، وقال في الحديث:
" نظرت إلى جبريل كأنه حلس لاط، فعرفت فضل عمله علي ".
فإن قيل: فقد قال تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) وقد كان على الصراط الأقوم، فضلاً عن صراط مستقيم على الإطلاق؟
فالجواب: أن هذه الآية نزلت في صلح الحديبية، وكان المسلمين قد كرهوا
ذلك الصلح ورأوا أن الرأي خلافه، وكان الله ورسوله أعلم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فلم يرد صراطاً مستقيماً في الدين، وإنما أراد صراطاً مستقيماً في الرأي والحرب والمكيدة وقوله تعالى:
(وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) .
أي: تهدي من الكفر والضلال إلى صراطٍ مستقيم.
ولو قال في هذا الموطن: " الصراط المستقيم "، لجعل للكفر والضلال حظاً من الاستقامة، إذ الألف واللام تنبئ أن ما دخلت عليه من الأسماء الموصوفة أحق بذلك المعنى مما تلاه في الذكر، أو ما قرن
به في الوهم، ولا يكون أحق به إلا والآخر فيه طرف منه.
وأما اشتقاق الصراط فمن " سرطت الشيء أسرطه "، إذا بلعته بلعاً سهلاً.
فالصراط هو الطريق السهل القويم، وجاء على وزن " فعال "، لأنه مشتمل على سالكة اشتمال الحلق على الشيء المسروط، وهذا الوزن كثير في المشتملات على الأشياء كاللحاف والخمار والرداء، وكذلك الشكال والعنان، إلى سائر الباب.
وأما ذكره بلفظ (الطريق) في سورة الأحقاف خاصة، فلأنه انتظم بقوله
سبحانه: (سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى) .
وإنما أراد أنه سبيل مطروق قد مرت عليه الرسل قبله، وأنه ليس ببدع، كما قال في السورة نفسها، فاقتضت البلاغة والإعجاز لفظ " الطريق "، لأنه " فعيل " بمعنى " مفعول ".
أي: إنه مطروق مشت عليه الرسل والأنبياء قبل، وليس في المواضع الأُخر ما يقتضي هذا المعنى.
فكان لفظ الصراط بها أولى، لأنه أمدح من جهة الاشتقاق والوزن كما تقدم.
وأما إضافته إلى اللفظ المجمل، ولم يقل: " صراط النبيين والصالحين ".
فلفائدتين: إحداهما: نفي التقليد عن القلب، واستشعار العمل بأن من هدي إلى هذا الصراط فقد أنعم عليه، ولو ذكرهم بأعيانهم لم يكن فيه هذا المعنى.
والفائدة الأخرى أن الآية عامة في طبقات المسلمين مسيئهم وصالحهم.
والمسيء لا يطلب درجة العالي حتى ينال التي هي أقرب إليه، ولفظ
(الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) يشمل الجميع، وجميع المأمورين بهذا الدعاء يطلب صراط الذين أنعم الله عليهم، وهم أصناف، كما أن السائلين لدرجاتهم أصناف.
وأما قوله تعالى: (الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ، ولم يقل: " المنعم عليهم "، فلأن
ذكر نعمة المنعم والثناء بها عليه وذكر النعم شكر، وإبراز ضمير الفاعل العائد على الله سبحانه من قوله: (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ذكر لله تعالى باللسان والقلب، ولو قال: " المنعم عليهم " لخلا هذا اللفظ من هذه الفوائد المقرونة بالدعاء، وهي الشكر والذكر، ألا ترى إلى قول إبراهيم عليه السلام: (وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ) ؟
فأضاف الفعل إلى ربه، ثم قال: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) .
ولم يقل: " أمرضني "، كما قال: (يُطْعِمُنِي) ، إذ ليس في قولك
" أمرضني " إلا الإخبار المجرد عن الشكر والثناء، وربما اقترن به تسخط وتضجر، فعدل عنه إلى قوله: (مَرِضْتُ) .
ولذلك قال سبحانه: (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) ولم يقل:
" الذين غضبت عليهم "، إذ ليس في الإخبار عنه بالغضب من الشكر والإحسان ما في قوله: (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) ؟
فكان اللفظ الوجيز أولى.
ولفائدة أخرى وهي أن الغضب صفة ينبغي للعبد أن يشترك فيها مع الرب
فيغضب لغضب الله تعالى، فاليهود قد غضب عليهم لغضب الله وجميع المؤمنين، فاستشعر الداعي هذا المعنى فلم يقل: " الذين غضبت عليهم ".
إذ لو قال ذلك لأخرج نفسه عن أن يغضب لغضب الله، كما أخرج نفسه عن أن ينعم، وأفرد الرب بالإنعام فقال: (أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) .
وفائدة أخرى، وهو أن الألف واللام في (المغضوب) ، وإن كانت بمعنى
" الذين " فليست مثلها في التصريح والإشارة إلى تعيين ذات الاسم، فإن قولك: " الذين فعلوا " معناه: القوم الذين فعلوا، وقولك:
" الضاربون والمضربون " ليس فيه ما في قولك " الذين ضَرَبوا أو ضُرِبوا "، وإذا صح هذا وتأملته فالذين أنعمت عليهم بلفظ (الذين) إشارة إلى تعرفهم بأعيانهم، وتعرفهم من الدين ولا سيما النبيين.
بخلاف من غضب الله عليهم فوجب الإعراض عنهم وترك الالتفات إلى ذاتهم، فاقتصر على الصفة المذمومة دون أن يعينوا بالذين.
وأما قوله: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ) نعتاً للذين، ولم يقل: " إلا الغضوب عليهم "
فلفائدة وهو أن اليهود والنصارى يدعون أن الله - تعالى - أنعم عليهم بالكتابين، وأنهم على الصراط المستقيم، فبين سبحانه أن الذين أنعم عليهم هم غير المغضوب عليهم، وهم اليهود، ولم يقل اليهود، " تجريداً للفظ، ليخرجهم بذكر الغضب عن صفة المنعم عليهم، وكذلك الضالين.
وقد تقدم في باب العطف ذكر " لا " في هذا الموضع، وأنها تعطي العطف بعد
إيجاب فلو عطف بها هاهنا لم يكن في الكلام أكثر من نفي إضافة الصراط إلى اليهود والنصارى، فلما جاء بغير، وهي اسم ينعت بها، زاد في الكلام فائدة الوصف والثناء للذين أنعم عليهم.
وأما استحقاق اليهود لهذا الاسم فلنزول غضب الله بهم في الدنيا، لتسليطه
الملوك عليهم وانتزاع الملك منهم، كما قال تعالى:
(وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ) .
فمن حيث أخبر عنهم أنهم قد باؤوا بغضب سماهم (الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) .
وأما تقديمهم على (الضالين) فقد تقدم من أصول التقديم في باب العطف ذكر التقديم بالزمان، وذكر التقديم بالرتبة.
واليهود متقدمون بالرتبة والمكان، لأنهم كانوا مجاورين لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وللمخاطبين بالآية.
وأقرب إليهم (ذكراً) من النصارى.
وأما ذكر (الضالين) بلفظ " فاعلين "، ولم يرد بلفظ المفعولين، لئلا يكون
كالعذر لهم، وإنما ينبغي أن يخبر عنهم باكتسابهم ضلالهم، لا بإضلال الله - عز وجل - إياهم وأما فائدة العطف بلا مع " الواو " فلتأكيد النفي الذي تضمنه (غير) ، فلولا ما فيها من معنى النفي لما عطف بلا مع " الواو ".
وفائدة هذه التوكيد أن لا يتوهم أن " الضالين " داخل في حكم
(الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) ، أو وصف لهم، ألا ترى أنك إذا قلت:
" ما مررت بزيد وعمرو "، توهم أنك إنما تنفي الجميع بينهما خاصة، فإذا قلت: " ما مررت بزيد وعمرو "، علم أنك تنفي
الفعل عنهما جميعاً، على كل حال من اجتماع وافتراق؟
* * *
اسم الکتاب : نتائج الفكر في النحو المؤلف : السهيلي الجزء : 1 صفحة : 24