يخلف ابن جني أستاذه فيتصدر للتدريس في بغداد ويزدحم مجلسه بطلاب العلم فيصبح مرجعهم بعد أبي علي.
أدرك ابن جني الشأو في البراعة والعمق في كل ما ألف من كتبه لا سيما سر صناعة الإعراب والخصائص والمحتسب وكان إماماً مقدماً في القياس يحث عليه ويرغب فيه ويرهف العزم على الأخذ به وبالتلطف والحجة.
سلك ابن جني مسلك أستاذه أبي علي الفارسي وكان أعلق بأصول المنطق والفقه، وقد أداه النظر الثاقب والرأي النضيج إلى فرائد وطرائف في اللغة وفقهها. ماز العلة النحوية من الفقهية والكلامية وجعل اتكاء النحوية على رهافة الحس وبداهة الطبع، ورأى أنها ليست في سمت الكلامية لكنها أقرب إليها من الفقهية (الخصائص- علل العربية- ج1) .
دافع ابن جني عن علل النحويين ورد على من اعتقد فسادها وادّعى ضعفها، وقد وفق في إنكار العلل الثواني وعلة العلل فارتضى منها ما جاء تتميماً للعلة الأولى وشرحاً لها..
وفي الجملة تناول ابن جني لغة العرب أصواتاً وحروفاً وبحث كيانها نشوءاً واستواء، بالحدس تارة والاستدلال الذهني تارة أخرى، وعالج أصول نحوها بالتلطف والحجة جميعاً متعمقاً متبسطاً (فلن تجد شيئاً مما علَّل به القوم وجوه الإعراب إلا والنفس تقبله والحس منطو على الاعتراف به.. وأن علل النحو إنما يفزع في التحاكم بها إلى بديهة الطبع) . وراز بنية ألفاظها صرفاً واشتقاقاً، وبحث قياسها وأوغل في البحث واتسع فيه. وكان له في كل ذلك القول المحكم والرأي النجيح.