responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : مناهج البحث في اللغة المؤلف : تمام حسان    الجزء : 1  صفحة : 4
لعزة جديدة لا تقل روعة عن التاريخ العربي نفسه، ووجد أمامه طريقًا في المستقبل، معالمه ما في أيدي الأمم من علوم، ومعارف يمكن أن ترقى بمصر إلى مستوى هذه الأمم ذات العلوم والمعارف، ثم رأى أنه لو سلك الطريق الأول فحسب، لا نقطع به التاريخ عن الحياة، ولو سلك الثاني فحسب لانقطعت به الحياة عن التاريخ، ففضل أن يأخذ بنصيب من التراث العربي يوحى إليه بالاعتزاز، ونصيب من الثقافة المعاصرة يمنحه العزة.
إذًا فجيلنا الحاضر نهب بين الشرق والغرب، لا في الثقافة وحدها، وإنما هو كذلك في العادات وطرق المعيشة، وهذه النفس الموزعة بين الشرق، والغرب لا بد أن تكون نفسا قلقة غير ذات استقرار، حائرة تتطلب الهدى، وطموحة تتطلب وحدة الهدف ووضوحه، فإذا أضفنا إلى هذا العنصر من عناصر الحيرة والاضطراب، والقلق أن المقادير قد ألقت على كاهل جيلنا هذا، أخطر تبعة تلقى على الأجيال، ألا وهي تبعة البناء من الأنقاض، وتمهيد الطريق، ووضع معالمه للأجيال القادمة؛ تبين لنا مقدار خطورة هذا الجيل في التاريخ المصري الحديث.
ولست بحاجة إلى أن أنبه إلى أن هذا الجيل أهل للقيام بهذه التبعات، فلقد هدم نظاما كان ثابتا كالطود، وأقام مكانه نظاما أثبت، وأقوى وأصلح، وجيلنا هذا هو الذي هاجم الجدب في الصحراء، والفساد في المجتمع، والرشوة في الحكم، والكسل في العمل، والتسويف في الإصلاح، والبلادة في الضمائر، وسيصل بعون الله إلى نتيجة باهرة لكل هجمة من هذه الهجمات.
نحن إذا في تطور يجب أن يشمل كل مرافق حياتنا، من سياسية إلى علمية إلى اقتصادية إلى حربية إلى اجتماعية إلى غير ذلك، وواجب المصري من هذا الجيل ألا يقنع بما هو كائن، وأن يفكر تفكيرا مضنيا فيما يجب أن يكون، وهذا هو المعنى الذي حفزني إلى أن أحاول هذه المحاولة في تجديد مناهج البحث في اللغة بفروعها المختلفة، وهي محاولة أترك الحكم عليها للقارئ.
ولست أريد أن أنهي القول في هذا التقديم، دون أن أنبه إلى بضع ملاحظات هامة، أولاها اعتذاري عما في هذا الكتاب من أخطاء مطبعية لم آل رغبة في

هذه الأدواء، وعلى رفع مستوى اللغة العربية من الناحية النفسية، ففخر الناس بها، وتكلموها، وأعطوها حظا أكبر من العناية، ولكن وزارة المعارف -برغم رفعها مستوى اللغة العربية من الناحية النفسية- خضعت للظروف السياسية، فهبطت بمستوى اللغة من الناحية الدراسية، ونتج عن ذلك أن انخفض المستوى التعليمي العام؛ لأن اللغة وهي أكبر وسيلة من وسائل التعليم، ترتفع بمستوى التعليم إذا ارتفع مستواها، وتنخفض به إذا انخفض مستواها.
وعلى هذه الدعوى الأخيرة، أريد أن أبني دعوى أخرى، هي أن خير التلميذين تقبلا للعلم أكثرهما معرفة باللغة التي يتعلم بها؛ وأكثر اللغتين جلبا لأصدقاء الأمة من الأجانب، تلك التي تسهل دراستها، وتقوم على منهج مقبول.
ولقد منيت الدراسات اللغوية العربية مدة طويلة بسمعة الصعوبة، وأحيانا بسمعة التعقيد، يشهد بذلك تلاميذ المدارس من جهة؛ وهؤلاء الذين لم يتخصصوا في اللغة من جهة أخرى، والجانب المستشرقون من جهة ثالثة، ولعل نعت الدراسات العربية هذه النعوت، إنما جاءها لعدم التجديد في منهجها؛ فما ورثناه عن آبائنا من خلط في التفكير اللغوي، لا يزال كما هو لسببين: أولهما الاعتقاد بأن الأوائل قد أتوا بما لا يمكن أن يزيد عليه الأواخر، "وتلك نظرة جعلت الأتراك في مرحلة من المراحل يقفلون باب الاجتهاد، أو بعبارة أخرى يحرمون البحث العلمي تحريما تاما"، والسبب الثاني ضيق النظرة إلى اللغة العربية، واعتبارها مرتبطة بالقرآن احتراما أو امتهانا، وقد أدى ذلك إلى قطع الصلة بينها وبين اللهجات العربية الأخرى القديمة والمعاصرة، وإلى تحريم الترخيص بالإضافة إلى محصولها، حتى إن بعضهم ليلزم استعمال ما جاء في المعاجم فحسب، ولا يسمح للوليد من الكلمات أن يدخل حظيرة الاستعمال اللغوي.
ولم يعدم العالم العربي في مختلف العصور، من يدعو إلى التجديد في منهج الدراسات اللغوية؛ ولعل أول محاولة لها خطرها في هذا الباب، هي محاولة ابن مضاء الأندلسي الظاهري المذهب، الذي دعا إلى اعتبار ما هو مستعمل فحسب من سيغ اللغة، دون الحاجة إلى التقدير والتعليل، وقد كثرت هذه المحاولات في العصر الحديث؛

اسم الکتاب : مناهج البحث في اللغة المؤلف : تمام حسان    الجزء : 1  صفحة : 4
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست