على أن ظاهرة كهذه لا تكاد تبدو إلّا حيث تكون لغة المحادثة غير تامة التكون ولا كاملة النمو، ولا تبقى إلّا ما بقيت لغة المحادثة على هذه الحال؛ فإذا ما بلغت هذه اللغة أشدها، وتمّ تكونها، واكتمل نموها، واتسع متنها، ووضحت دلالات مفرداتها, ووجوه استخدامها، وتشعبت فيها فنون القول، ودقت مناحي التعبير، وقويت على تأدية حقائق الآداب والعلوم، أخذت تطارد لغة الكتابة وتسلبها وظائفها وظيفة وظيفة حتى تجردها منها جميعًا، فتصبح هي لغة الكتابة، وتقذف بلغة الكتابة القديمة في زوايا اللغات الميتة, وهذا هو ما انتهى إليه أمر اللاتينية مع لغات المحادثة بفرنسا وإيطاليا ورومانيا وأسبانيا والبرتغال.
فما أشبه لغة الكتابة الجامدة في حالات كهذه بجبل ثلج ثابت على ما سطح البحر، ولغات المحادثة المتطورة بالتيارات المائية التي تموج تحته, فمهما طال بقاء هذا الثلج، فإن مصيره إلى التحطيم والذوبان، وحينئذ تطفو تلك التيارات إلى سطح البحر، وتعيد إليه ما كان مستورًا تحت هذا الجبل الجامد من مظاهر النشاط والحياة.
2- تأثر اللغة باللغات الأخرى تبادل المفردات بين اللغات:
تقدَّم أن أيّ احتكاك يحدث بين لغتين أو بين لهجتين -أيًّا كان سبب هذا الاحتكاك، ومهما كانت درجته، وكيفما كانت نتائجه الأخيرة- يؤدي لا محالة إلى تأثر كل منهما بالأخرى[1].
ولما كان من المتعذر أن تظل لغة بمأمن من الاحتكاك بلغة أخرى، لذلك كانت كل لغة من لغات العالم عرضة للتطور المطرد عن هذا الطريق. [1] انظر صفحات 179-185، 229-248.