اسم الکتاب : تاج المفرق في تحلية علماء المشرق المؤلف : البلوي، خالد الجزء : 1 صفحة : 43
فأرحنا فيها تعب الأبدان، وسرحنا منها في بلد من أحسن تلك البلدان، بلد حسنه يفقه من كان بليدا، حتى يعود ليبدأ، فسيحة الساحة، مستطيلة المساحة، نزهة لعين مبصرها من النظافة والملاحة، ما شئت من منظر عجيب، وجانب رحيب، وبسيط خصيب، وساحل قريب، ومكان مؤنس لكل غريب، يزهر بالحسن المحض، والنور الغض، وناهيك بالشام، شامة الأرض كما قال عرقلة الدمشقي:
هذا هو الزمن الربيع المونق ... والعيشة الرغد التي هي تعشق
فعلام تصحو والحمام كأنها ... سكرى تغني تارة وتصفق
وتلوم في حب الديار جهالة ... هيهات يسلوها فؤاد شيق
والشام شامة وجنة الدنيا كما ... إنسان مقلتها الغضيضة جلق
من آسها لك جنة لا تنقضي ... ومن الشقيق جهنم لا تحرق
سيما وقد رقم الربيع ربوعها ... وشيا به حدق البرايا تحدق
في روضة ضحكت ثغور أقاحها ... لما بكاها العارض المتدفق
فبتنا ببعض بساتنها وهناك جريان الأنهار، وحفيف الأشجار، وتغريد الأطيار، ما أذكر قول ابن حصن كاتب المعتمد بن عباد:
وما هاجني إلا ابن ورقاء هاتف ... على فنن بين الجزيرة والنهر
مفستق طوق زوردي كلكل ... موشى الطلى أحوى القوادم والظهر
أدار على الياقوت أجفان لؤلؤ ... وصاغ على الأجفان طوقا من التبر
حديد شبا المنقار داج كأنه ... شبا قلم من فضة مد في حبر
توسد من فرع الأراك أريكة ... ومال على طي الجناح من النحر
ولما رأى دمعي مراقا أرابه ... بكائي فاستولى على الغصن النضر
وحث جناحيه وصفق طائرا ... وطار بقلبي حيث طار ولا ادري!؟
وأقمنا حتى بدا النور، وتكلم العصفور، وسرنا نحث السرى، ونعاصى الكرا، حتى ذهب الظلام وأشرفنا على مدينة الخليل عليه السلام، وأشرقت لنا تلك الربا والأعلام، فدخلناها في ضحوة يوم الخميس التاسع لشعبان المذكور فحللت فيها قصرا عظيم البركة ظاهر الرحمة، لائح الأنوار، كريم المئاثر، والآثار، ينبى عن الشام بطيب أنبائها، وحسن آلائها. ورقة هوائها، وبهجة بهائها، وجدا جداولها، وجنا جذاذلها، وتضوع أريج أسحارها وتنوع بهيج أوهارها، وريا رياضها ورونق جواهرها وأعراضها، وغرة أرضها وصحة هوائها وقلة أمراضها:
بلاد بها الحصباء درو تربها ... عبير وأنفاس الرياح شمول
تسلسل فيها ماؤها وهو مطلق ... وصح نسيم الروض وهو عليل
وقدمت والزمان في عنفوانه، والربيع في ريعانه، والروض في حسنه وإحسانه والزهر في زهره وزهوه، والطير في شوقه، وشدوه، والدوح بالورق بين أوراقه في جدوه، والنوار قد شب وشاب، والهزار قد لب ولاب، والعندليب قد طرب وغنى، والحبيب قد ظرف وتجنى، وللأندية أنداء، وللأدوية أوداء، وللصبا صبابات، وللبيب لبانات وللشمال شمول، وللقبول قبول، وللعرار شميم، والباهر نسيم، وللنرجس عيون وللورد وجنة. وللكمام أجنة، وللغمام دجنة وللإقاح ثغور، باسمة وللأغصان قدود ناعمة وللأفنان فنون، وللحديث شجون ولجبهة الغدير من حركة النسيم غضون، ولهزة المساري أعطاف يقال لها غصون:
والماء تحت الغصن مطرد ... والغصن فوق الماء منعكس
اسم الکتاب : تاج المفرق في تحلية علماء المشرق المؤلف : البلوي، خالد الجزء : 1 صفحة : 43