اسم الکتاب : الروض المعطار في خبر الأقطار المؤلف : الحميري، ابن عبد المنعم الجزء : 1 صفحة : 53
فقالت: أتمنى أن أغني هذه النوبة ببغداد، قال: فامتقع لون تميم وتغير وجهه وتكدر المجلس، وقام وقمنا، قال ابن الاسكري: فلحقني بعض خدمه وقال: ارجع فالأمير يدعوك، فرجعت فوجدته جالساً ينتظرني، فسلمت وقمت بين يديه، فقال: ويحك أرأيت ما امتحنا به! فقلت: نعم أيها الأمير، قال: لا بد لنا من الوفاء وما أثق في هذا بغيرك فتأهب لتجلبها إلى بغداد فإذا غنت هناك فاصرفها، قلت: سمعاً وطاعة، قال: ثم قمت وتأهبت، وأمرها بالتأهب وأصحبها جارية لها سوداء تخدمها وأمر بناقة ومحمل فأدخلت فيه وحملتها معي وسرت إلى مكة مع القافلة فقضينا حجنا ثم دخلنا قافلة العراق وسرنا، فلما وردنا القادسية أتتني السوداء فقالت: تقول لك سيدتي أين نحن؟ فقلت لها: نحن نزول بالقادسية، فانصرفت إليها فأخبرتها، فلم أنشب أن سمعت صوتها قد ارتفع بالغناء تقول:
لما وردنا القادسية حيث مجتمع الرفاق ... وشممت من أرض الحجاز نسيم أنفاس العراق ... أيقنت لي ولمن أحب بجمع شمل واتفاق ... وضحكت من فرح اللقاء كما بكيت من الفراق ... ما بيننا إلا تصرم هذه السبع البواقي ... حتى يطول حديثنا بصنوف ما كنا نلاقي ... فتصايح الناس من أقطار القافلة: بالله أعيدي، قال: فما سمع لها كلمة، قال: ثم نزلنا الياسرية وبينها وبين بغداد خمسة أميال في بساتين متصلة ينزل الناس بها فيبيتون ليلتهم ثم يبكرون لدخول بغداد، فلما كان قرب الصباح إذا بالسوداء قد أتتني مذعورة فقلت: ما لك. قالت: إن سيدتي ليست بحاضرة، فقلت: ويلك وأين هي؟ قالت: والله ما أدري، قال: فلم أحس لها أثراً بعد ذلك. ودخلت بغداد وقضيت حوائجي بها وانصرفت إلى تميم فأخبرته خبرها، فعظم ذلك عليه واغتم له ثم ما زال بعد ذلك واجماً عليها.
استجة (1)
بين القبلة والمغرب من قرطبة، بينهما مرحلة كاملة، وهي مدينة قديمة لم يزل أهلها في جاهلية وإسلام على انحراف وخروج عن الطاعة، ومعنى هذا الاسم عندهم جمعت الفوائد، وفي أخبار الحدثان انه كان يقال: استجة البغي مذكورة باللعنة والخزي، يذهب خيارها ويبقى شرارها.
وكانت هيئتها التي ألفاها عليها طارق بن زياد أن سورها كان قد عقد بسورين أحدهما صخر أبيض والثاني صخر أحمر بأجمل صنعة وأحكم بناء، وردم بينهما وسوي ووضع في موضع الشرفات من المرمر صور بني آدم من كل الجهات تواجه القاصد نحوها فلا يشك الناظر أنها رجال وقوف.
وكان لها من الأبواب: باب القنطرة شرقي، باب اشبونة قبلي، باب رزق غربي، باب السويقة جوفي، وغير ذلك من الأبواب، والمدينة مبنية على الرصيف الأعظم المسلوك عليه من البحر إلى البحر، وكانت استجة واسعة الأرباض ذات أسواق عامرة وفنادق جمة وجامعها في ربضها مبني بالصخر له خمس بلاطات على أعمدة رخام وتجاوره كنيسة للنصارى. وباستجة آثار كثيرة ورسوم تحت الأرض موجودة، وهي منفسحة الخطة عذبة الأرض زكية الريع كثيرة الثمار والبساتين نضيرة الفواكه والزروع، ولها أقاليم خمسة.
وكان أهل استجة ممن خلع وخالف فافتتحها عبد الرحمن بن محمد على يد بدر الحاجب سنة ثلاثمائة فهدم سورها ووضع بالأرض قواعدها وألحق أعاليها بأسافلها وهدم قنطرة نهرها وفي ذلك يقول أحمد بن محمد بن عبد ربه:
ألا انه فتح يقر له الفتح ... فأوله سعد وآخره نجح
سرى القائد الميمون خير سرية ... تقدمها نصر وتابعها فتح
ألم تره أردى باستجة العدى ... فلاقوا عذاباً كان موعده الصبح
فلا عهد للمراق من بعد هذه ... يتم لهم عند الإمام ولا صلح
تولوا عباديداً بكل ثنية ... وقد مسهم قرح وما مسنا قرح وبين استجة ومرشانة عشرون ميلاً وكذلك بينها وبين قرمونة.
(1) بروفنسال: 14 والترجمة: 20 (Ecija) .
اسم الکتاب : الروض المعطار في خبر الأقطار المؤلف : الحميري، ابن عبد المنعم الجزء : 1 صفحة : 53