اسم الکتاب : الروض المعطار في خبر الأقطار المؤلف : الحميري، ابن عبد المنعم الجزء : 1 صفحة : 197
أسواق حلب مسقف، وبحلب جماعة من اليهود ونصارى نسطوريون.
قال بعضهم [1] : حلب قدرها خطير، وذكرها في كل زمن يطير، لها قلعة شهيرة الامتناع، معدومة الشبيه والنظير في القلاع، ويقال إن هذه القلعة كانت في قديم الزمان ربوة يأوي إليها إبراهيم الخليل عليه السلام بغنيمات فيحلبها هنالك ويتصدق بلبنها فلذلك سميت حلب، وبها مشهد عظيم يقصد الناس التبرك به. ومن فضائل هذه القلعة ماء نابع فيها لا يخاف معه فيها ظمأ، والطعام يصير [2] فيها الدهر كله، وعليها سوران دونهما خندق لا يكاد البصر يبلغ مدى عمقه، وبالجملة القلعة مشهورة بالحصانة والحسن، وأبراج سور البلد كثيرة [3] جداً وأبراجها كلها مسكونة وكلها طيقان وداخلها المساكن السلطانية والمنازل الرفيعة. والبلد حفيل الترتيب بديع الحسن واسع الأسواق وكلها مسقفة بالخشب فهي في ظلال وارفة، وقيساريتها حديقة بستان نظافة وجمالاً مطيفة بجامعها، وجامعها من أحسن الجوامع وأجملها، وفي صحنه بئران معينان [4] وقد استفرغت الصنعة القرنصية جهدها في منبره فما رؤي [5] في بلد منبر على شكله وغرابة صنعته، واتصلت الصنعة [6] الخشبية إلى المحراب فتخللت صفحاته كلها حسناً على تلك الصفة الغريبة، وكل ذلك مرصع بالعاج والأبنوس، واتصل الترصيع من المنبر إلى المحراب مع ما يليهما من جدار القبلة فتجتلي العيون منها أبهى منظر يكون في الدنيا. وحسن هذا الجامع أكثر من أن يوصف، ويتصل به من الجانب الغربي مدرسة تناسب الجامع حسناً وإتقان صنعة، وهذه المدرسة من أحفل ما بني، وجدارها الشرقي مفتح كله بيوتاً وغرفاً فوقها ولها طيقان يتصل بعضها ببعض، وقد امتد بطول الجدار عريش كرم مثمر عنباً، فجعل لكل طاق من تلك الطيقان قسطها من ذلك متدلياً أمامها، فيمد الساكن فيها يده ويجنيه متكياً بلا مشقة. وفي البلد سوى هذه المدرسة أربع مدارس أو خمس، وبها مارستان وأمرها في الاحتفال عظيم، وحسنها كله داخل لا خارج لها إلا نهرها الجاري من جوفها إلى قبليها ويشق ربضها المستدير بها، لأن لها ربضاً كبيراً فيه من الحمامات [7] ما لا يحصى عدة، وبهذا النهر الأرحاء وهي متصلة بالبلد، وبهذا الربض بعض بساتين تتصل بطوله، وعلى الجملة فهي من بلاد الدنيا التي لا نظير لها.
وكانت بحلب، سنة ست وثلاثين وأربعمائة، وقيعة عظيمة على ارمانوس الرومي، وكان قد عسكر عليها في نحو مائة وأربعين ألفاً أتت على أكثرهم، وأسر فيها نحو سبعة آلاف وخمسمائة من كبارهم وبطارقهم، وأمير حلب يومئذ شبل الدولة نصر بن صالح بن مرداس الكلابي، وكانت تجمع له من العرب وكور قنسرين نحو عشرة آلاف، وكانت الوقيعة على ثلاثة فراسخ من حلب، وكثرت الغنائم والسبي بأيدي المسلمين حتى بيع الفرس من سبي الروم بسرجه ولجامه بمثقالين، والغلام منهم بمثقال والجارية بثلاثة مثاقيل. ولبعضهم [8] :
حلبت الدهر أشطره ... وفي حلب صفا حلبي الحلة[9] :
مدينة كبيرة منيفة على شط الفرات يتصل بها من جانبها الشرقي وتمتد بطوله، وبها أسواق حفيلة جامعة للمرافق المدنية والصناعات الضرورية، وهي قوية التجارة كثيرة الخلق متصلة حدائق النخل داخلاً وخارجاً، ولها جسر عظيم معقود على مراكب كبار متصلة من الشط إلى الشط تحف بها من جانبيها سلاسل من حديد كالأذرع المفتولة عظماً وضخامة تربط في خشب في كلا الشطين، والطريق من الحلة إلى بغداد أحسن طريق وأجملها من بسائط وعمائر تتصل بها القرى يميناً وشمالاً، وبين هذه البسائط مذانب من الفرات تسقيها، وللعين في ذلك مسرح وانشراح. [1] ينقل المؤلف - مباشرة أو بالواسطة - عن رحلة ابن جبير، ولأمر ما يخفي اسم المصدر الذي ينقل عنه. [2] الرحلة: يصبر. [3] سقطت من ع. [4] كذا هو أيضاً في أصل نسخة ابن جبير، وحقه التأنيث. [5] ص ع: رأى؛ وهو عند ابن جبير ((أرى)) لأنه يصفه مشاهدة. [6] زيادة من ابن جبير. [7] الرحلة: الحانات. [8] من أبيات لابن خروف الشاعر الأندلسي أبي الحسن علي بن محمد بن يوسف القرطبي، وقد ورد حلب واستوطنها؛ وقد رفع هذه الأبيات للقاضي بهاء الدين ابن شداد يستجديه فروة (ابن خلكان 7: 94) . [9] بدها سيف الدولة زعيم بني مزيد حوالي سنة 495، ولهذا لا نجد لها ذكراً عند الجغرافيين المتقدمين، قارن بياقوت (الحلة) ، والنص هنا عن ابن جبير: 213، وانظر ابن بطوطة: 220.
اسم الکتاب : الروض المعطار في خبر الأقطار المؤلف : الحميري، ابن عبد المنعم الجزء : 1 صفحة : 197