ووالله ما أبكي إلا انكشاف من أتخلفه بعدي، ويتحيفه بعدي، ثم أطرق ورفع رأسه وقد تهللت أسرته، وظللته مسرته، ورأيته قد استجمع، ولشوف إلى السماء وتطلع، فعلمت أنه قد رجا عودة إلى سلطانه، وأوبة إلى أوطانه، فما كان إلا مقدار ما تنداح دائرة، أو تلتفت مقلة حائرة، حتى قال: متقارب
كذا يهلك السيف في جفنه ... إذا هزّ كف طويل الحنينِ
كذا يعطش الرمح لم أعتقله ... ولم تروه من نجيعٍ يمني
كذا يمنع الطرف علك الشكي ... م مرتقباً غرّة في كمينِ
كانّ الفوارس فيه ليوث ... تراعى فرائسها في عرينِ
إلا شرف يرحم المشر ف ... يّ مما به من سماة الوتينِ
الأكرم ينعش السمهريَّ ... ويشفيه من كل داءٍ دفينِ
الأحنّة لبن محنيه ... شديد الحنين ضعيف الأنينِ
يؤمل من صدرها ضمّة ... تبوّئه صدر كفؤّ معينِ
وكانت طائفة من أهل فاس قد عاثوا فيها وفسقوا، وانتظموا في سلك الطغيان واتسقوا، ومنعوا جفون أهلها السنات، وأخذوا البنين من جحور أمهاتهم والبنات، وتلقبوا بالإمارة، واركبوا السواء نفوسهم الإمارة، حتى كادت تقفر على أيديهم، وتدثر رسومها بإفراط تعديهم، إلى أن تدارك أمير المسلمين رحمه الله أمرهم، وأطفأ جمرهم، وأوجعهم ضرباً، وأقطعهم ما شاء حزناً وكرباً، وسجنهم باغمات، وضمتهم جوانح الملمات، والمعتهد غذ ذاك، معتقل هناك، وكان فيهم طائفة شعرية، مذنبة أو برية، فرغبوا إلى سجانهم، أن يستريحوا إلى المعتمد من أشجانهم، فخلى ما بينهم وبينه، وغمض لهم في ذلك عينه، فكان المعتمد رحمه الله يتسلى بمجالستهم، ويجد أثر موانستهم، ويستريح إليهم بجواه، ويبوح لهم بسره ونجواه، إلى أن شفع فيهم وانطلقوا من وثاقهم، وانفرج لهم مبهم أغلاقهم، وبقي المعتمد في مجلسه يتشكى من ضيق الكبل، ويبكي بدمع كالوبل، فدخلوا عليه مودعين، ومن بثه متوجعين، فقال: طويل
أما لانسكاب الدمع في الخد راحة ... لقد آن أن ينفي ويقنا به الخد
هبوا دعوة يا آل فاس لمبتل ... بما منه قد عافاكم الصمد الفرد
تخلصتم من سجن أغمات والتوت ... عليّ قيود لم يحن فكّها بعدُ
من الدهم أمّا خلقها فأساودَ ... تلوى وأمّا الأيد والبطش فالأسدُ