responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : عثمان بن عفان ذو النورين المؤلف : محمد رضا    الجزء : 1  صفحة : 77
- عزل الوليد بن عقبة عن الكوفة [1] :
كان للكوفة شأن عظيم، وتأثير في مجرى الحوادث في ذلك الوقت، وقد أخذ أهلها يتذمرون ويتحزبون، ويثيرون الفتن على الولاة، فلم تطل ولاية المغيرة على الكوفة [2] ، فعزله عثمان، وولى مكانه سعد بن أبي وقاص، عملاً بوصية عمر، إلى أن حدث الخلاف بينه وبين ابن مسعود، الذي كان على بيت المال [3] ، فغضب عثمان على سعد، فعزله، وولى مكانه الوليد بن عقبة، وهو أخو عثمان لأمه. وكان شجاعاً، لكنه كان متهماً بشرب الخمر، ثم إن أبا عقبة بن أبي معيط كان من أشد الناس عداوة لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ومن المستهزئين به، ولما أسر في غزوة بدر وقدم للقتل نادى: يا معشر قريش ما لي أقتل بينكم صبراً؟! فقال له النبي صلى اللَّه عليه وسلم: "بكفرك واجترائك على اللَّه ورسوله" [4] ، وعقبة [5] هو الذي وضع سلا الجزور على ظهر النبي صلى اللَّه عليه وسلم وهو ساجد. فهناك مجال واسع للطعن على ولاية الوليد بن عقبة:
أولاً: لأنه ابن عقبة بن أبي معيط المعروف بعدائه لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم.
ثانياً: لأنه هو الذي ذكر في القرآن بقوله تعالى: {إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: [6]] .
ثالثاً: لأنه كان متهماً بشرب الخمر -[78]-.
رابعاً: لأن المسلمين يعلمون قرابته لعثمان، وقد كان من الصحابة من هو أحق منه بهذا المركز، ولا سيما سعد الذي كانت له مواقف مشهورة في حرب الفرس، ومع ذلك كان الوليد محبوباً، وقام بغزوات عدة ظهرت فيها شجاعته، لكن أهل الكوفة حملوا عليه حملة شديدة. وقد بقي خمس سنين وليس لداره باب. ثم إن شُباناً من أهل الكوفة نقبوا على ابن الحَيْسُمَان الخزاعي وكاثروه فنذر بهم [6] . وخرج عليهم بالسيف وصرخ، فأشرف عليهم أبو شريح الخزاعي وكان قد انتقل من المدينة إلى الكوفة للقرب من الجهاد. فصاح بهم أبو شريح فلم يلتفتوا إليه وقتلوا ابن الحيْسمان وأخذهم الناس وفيهم زهير بن جُنْدَب الأزدي ومورَّع بن أبي مورع الأسدي وشبيل ابن أبيّ الأزدي وغيرهم فشهد عليهم أبو شريح وابنه فكتب فيهم الوليد إلى عثمان بقتلهم فقتلهم على باب القصر، في الرَّحبة. ولهذا أخذ في القسامة [7] بقول ولي المقتول عن ملأ من الناس ليكف الناس عن القتل.
وكان أبو زبيد الطائي الشاعر في الجاهلية والإسلام في بني تغلب وكانوا أخواله فجحدوه ديناً له، فأخذ له الوليد حقه إذا كان عاملاً عليهم فشكر أبو زبيد ذلك له وانقطع إليه، وغشيه بالمدينة والكوفة، وكان نصرانياً، فأسلم عند الوليد. وكان معروفاً بشرب الخمر، فأنزله داراً لعقيل بن أبي طالب على باب المسجد فاستوهبها منه زبيد فوهبها له، فكان ذلك أول الطعن على الوليد بالكوفة، لأن أبا زبيد كان يخرج من منزله حتى يشق الجامع إلى الوليد فَيَسْمُرَ عنده، ويشرب معه، ويخرج فيشق المسجد، وهو سكران. فلذلك نبهم عليه. فبينما هو عنده أتى آتٍ أبا زينب، وأبا مورع، وجندباً، وكانوا يتربصون للوليد منذ قتل أبناءهم، ويضعون له العيون للإيقاع به، فقال لهم: إن الوليد وأبا زبيد يشربان الخمر، فثاروا وأخذوا معهم نفراً من أهل الكوفة، فاقتحموا عليه، فلم يروه، فأقبلوا يتلاومون، وسبَّهم الناس، وكتم الوليد ذلك عن عثمان. وجاء جندب ورهط معه إلى ابن مسعود فقالوا له: إن الوليد معتكف على الخمر وأذاعوا ذلك. فقال ابن مسعود: "من استتر عنا لم نتبع عورته". فعاتبه الوليد على قوله حتى تغاضبا، ثم أتى الوليد بساحر، فأرسل إلى ابن مسعود يسأله عن حده، واعترف الساحر عند ابن مسعود، وكان يخيل إلى الناس أنه يدخل في دبر الحمار، ويخرج في فيه، فأمره ابن مسعود بقتله. فلما -[79]- أراد الوليد قتله أقبل الناس ومعهم جندب بن كعب، فضرب الساحر، فقتله، فحبسه الوليد، وكتب إلى عثمان فيه، فأمره بإطلاقه وتأديبه، فغضب لجندب أصحابه، وخرجوا إلى عثمان يستعفون من الوليد، فردهم خائبين، فلما رجعوا أتاهم كل موتور، فاجتمعوا معهم على رأيهم، ودخل أبو زينب وأبو مُورَع وغيرهم على الوليد، فتحدثوا عنده، فنام، فأخذا خاتمه وسارا إلى المدينة. واستيقظ الوليد فلم ير خاتمه، فسأل نساءه عن ذلك فأخبرنه أن آخر من بقي عنده رجلان صفتهما كذا وكذا فاتهمهما وقال: هما أبو زينب وأبو مورع، وأرسل يطلبهما فلم يوجدا. فقدما على عثمان ومعهما غيرهما، وأخبراه أنه شرب الخمر. فأرسل إلى الوليد فقدم المدينة ودعا بهما عثمان. فقال: أتشهدان أنكما رأيتماه يشرب. فقالا: لا. قال: فكيف؟ قالا: اعتصرناها من لحيته، وهو يقيء الخمر. فأمر سعيد بن العاص فجلده. فأورث ذلك عداوة بين أهليهما. وقيل: إن الذي جلده عبد اللَّه بن جعفر بن أبي طالب جلده أربعين جلدة وهو الصحيح، لأن علياً أمر ابنه الحسن أن يجلده، فقال الحسن: ولِّ حارَّها من تولى قارها [8] ، فأمر عبد اللَّه بن جعفر فجلده أربعين، فقال عليّ: أمسك. جلد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم وأبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكل سُنَّة. وهذا أحب إليَّ.
وقيل: إن الوليد قد سكر وصلى الصبح بأهل الكوفة أربعاً، ثم التفت إليهم وقال: أزيدكم؟ [9] فقال ابن مسعود: "ما زلنا معك في زيادة منذ اليوم". وشهدوا عليه عند عثمان، فأمر علياً بجلده، فأمر عليٌّ جعفراً فجلده.
وروي أنه لما أحضر عثمان رضي اللَّه عنه الوليد في شرب الخمر حضر الحُطيئة، فاستأذن على عثمان وعنده بنو أمية متوافرون، فطمعوا أن يلتمس للوليد عذراً فقال [10] :
شهد الحُطيئة يوم يلقى ربه ... أن الوليد أحق بالعذر
خلعوا عِنانك إذ جريت ولو ... تركوا عنانك لم تزل تجري
ورأوا شمائل ماجد أنف ... يعطي على الميسور والعسر
فنُزعت مكذوباً عليكَ ولم ... تنزع إلى طمع ولا فقر
فسروا بذلك وظنوا أنه قد قام بعذره. فقال رجل من بني عجل يرد على الحطيئة:
نادى وقد تمت صلاتهم ... أأزيديكم - ثملاً - وما يدري -[80]-
فأبوا أبا وهب ولو فعلوا ... وصلتْ صلاتهُمُ إلى العشر
فوجم القوم وأطرقوا. فأمر به عثمان رضي اللَّه تعالى عنه فحُدَّ.
شهد على الوليد أبو زينب، وأبو مورع، وجُندَب، وسعد بن مالك الأشعري، ولم يشهد عليه إلا يمانٍ. "أي أن كل من شهد عليه من اليمن".
جُلد الوليد في المدينة أمام أقارب عثمان، أمام بني أمية، أمام علي بن أبي طالب وأولاده وأنصاره، وهذه فضيحة شنيعة:
أولاً: لأنه كان والياً على الكوفة والخمر محرمة في الشريعة الإسلامية، ويُحدُّ شاربها، والوالي هو الذي يقيم الحدود، فيجب عليه أن يكون قدوة للناس في الصلاح والتقوى وإتباع الكتاب والسنة.
ثانياً: لأنه أخو الخليفة الذي ولاه مكان سعد بن أبي وقاص، فاختيار عثمان للوليد لم يكن موفقاً. فما كل ذي قرابة يصلح للحكم، ومن خلق الناس أنهم يتربصون وقوع الخطأ ممن يعين لقرابته لأولي الأمر، فإذا هفا هفوة، أو أذنب طعنوا عليه، وعددوا مثالبه، وطعنوا على من ولاه. وقد قيل: إن عثمان رضي اللَّه عنه كان واقعاً تحت تأثير أقاربه وبني أمية، وكان يثق بهم. أما أبو بكر وعمر رضي اللَّه عنهما، فقد كانا يتجنبان المحاباة ولا يراعيان غير المصلحة العامة. ولم يرَ عثمان بداً من جلد الوليد بعد أن شهدوا عليه إقامة للحدود.
وفي الطبري: كان الناس في الوليد فرقتين، العامة معه والخاصة عليه. فما زال عليهم من ذلك الخشوع حتى كانت صفِّين، فولى معاوية، فجعلوا يقولون عيَّب عثمان بالباطل، فقال لهم عليّ عليه السلام: "إنكم وما تعيرون به عثمان كالطاعن نفسه ليقتل ردفه، ما ذنب عثمان في رجل ضربه بقوله وعزله عن عمله. وما ذنب عثمان فيما صنع عن أمرنا؟ " [11] .
وعن نافع بن جبير قال: قال عثمان رضي اللَّه عنه: إذا جلد الرجل الحرّ ثم ظهرت توبته جازت شهادته.
وقيل: كان الوليد أدخل الناس على الناس خيراً - حتى جعل يقسم للولائد والعبيد، ولقد تفجَّع عليه الأحرار والمماليك، كان يُسْمَع الولائد - وعليهن الحداد - يقلن:
يا ويلتا قد عزل الوليد ... وجاءنا مُجوّعاً سعيد
ينقص في الصاع ولا يزيد ... فَجُوَّعَ الإماء والعبيد

[1] الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 608، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 3.
[2] ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 53.
[3] أي وزيراً للمالية.
[4] رواه الهيثمي في مجمع الزوائد (6: 89) .
[5] كان عقبة بن أبي معيط تزوج أروى بعد وفاة عفَّان، فولدت له الوليد، وخالداً، وعمارة، وأم كلثوم، كل هؤلاء أخوة عثمان لأمه.
[6] نَذَرَ بهم: علم بهم واستعد لهم.
[7] القَسَامة: بالفتح، الأيمان تُقسَم على أولياء القتيل إذا ادَّعوا الدم، يقال: قتل فلان بالقَسَامة إذا اجتمعت جماعة من أولياء القتيل فادعوا على رجل أنه قتل صاحبهم، ومعهم دليل دون البينة، فحلفوا خمسين يميناً أن المدعى عليه قتل صاحبهم، فهؤلاء الذين يقسمون على دعواهم يسمَّون قَسَامَة أيضاً.
[8] أي: ولِّ مكروه الأمر من تولى محبوبه.
[9] السيوطي، تاريخ الخلفاء ص 123.
[10] ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج 3/ص 4.
[11] الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج 2/ص 612.
اسم الکتاب : عثمان بن عفان ذو النورين المؤلف : محمد رضا    الجزء : 1  صفحة : 77
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست