responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : عثمان بن عفان ذو النورين المؤلف : محمد رضا    الجزء : 1  صفحة : 201
- المدافعون عن عثمان:
قد أبدينا رأينا في سياسة عثمان رضي اللَّه عنه، وذكرنا في مواطن شتى أسباب الفتنة، وما استوجب غضب الناس عليه وقتئذٍ، كما أننا ذكرنا ردَّه على منتقديه، لكنه رضي اللَّه عنه عاد فتاب في خطبة له، وإن كان لم يغيّر سياسته بسبب تسلط أقاربه عليه، غير أن بعض المؤلفين تعرَّضوا لأسباب النقمة وفنَّدوها واحدة واحدة، ومعنى ذلك أن الأمة الإسلامية في ذلك الوقت وقد أجمعت تقريباً عدا أقاربه على نقد خطته السياسية كانوا على خطأ، مع العلم بأن كبار الصحابة كانوا لا يرون رأيه وينقدون سياسته ونصحوا مراراً بالإقلاع عنها، فالدفاع عنه وتبرئته من كل خطأ أدى إلى هذه الكارثة التي أعقبتها كوارث مناقض لرأي الصحابة ولتوبته الأخيرة. وليس يتضح الحق بمثل هذا الدفاع، وقد نقل الأستاذ فريد وجدي بعض ما كتبه أبو بكر محمد بن يحيى الأشعري في كتابه "التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان" دفاعاً عنه فليراجعه من أراد التفصيل والكتاب موجود بدار الكتب المصرية.
ولا يفوتنا في هذا المقام أن نأتي على ذكر مثال مما ردَّ به أبو جعفر أحمد، الشهير بالمحب الطبري، صاحب كتاب "الرياض النضرة في مناقب العشرة" قال:
الأول: ما نقموا عليه من عزله جمعاً من الصحابة، منهم أبو موسى عزله عن البصرة وولاها عبد اللَّه بن عامر. ومنهم عمرو بن العاص عزله عن مصر وولاها عبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح، وكان ارتد في حياة النبي صلى اللَّه عليه وسلم ولحق بالمشركين، فأهدر النبي صلى اللَّه عليه وسلم دمه بعد الفتح إلى -[202]- أن أخذ له عثمان الأمان، ثم أسلم. ومنهم عمار بن ياسر عزله عن الكوفة، ومنهم المغيرة بن شعبة عزله عن الكوفة أيضاً، ومنهم عبد اللَّه بن مسعود عزله عن الكوفة أيضاً وأشخصه إلى المدينة.
الجواب: أما القضية الأولى وهي عزل من عزله من الصحابة فإليك التفصيل: أما أبو موسى فكان عذره في عزله أوضح من أن يذكر فإنه لو لم يعزله اضطربت البصرة والكوفة وأعمالهما للاختلاف الواقع بين جند البلدين. وقصته: أنه كتب إلى عمر في أيامه يسأله المدد فأمده بجند الكوفة، فأمرهم أبو موسى قبل قدومهم عليه برامهرمز فذهبوا إليها وفتحوها، وسبوا نساءها وذراريها، فحمدهم على ذلك، وكره نسبة الفتح إلى جند الكوفة دون جند البصرة فقال لهم: إني كنت أعطيتهم الأمان وأجلتهم ستة أشهر فردوا عليهم، فوقع الخلاف في ذلك بين الجندين وكتبوا إلى عمر فكتب عمر إلى صلحاء جند أبي موسى، مثل البراء وحذيفة وعمران بن حصين وأنس بن مالك وسعيد بن عمرو الأنصاري وأمثالهم وأمرهم أن يستحلفوا أبا موسى، فإن حلف أنه أعطاهم الأمان وأجلهم ردوا عليهم فاستحلفوه فحلف ورد السبي عليهم وانتظر لهم أجلهم وبقي الجند حانقين على أبي موسى، ثم رفع على أبي موسى إلى عمر وقيل له: لو أعطاهم الأمان لعلم ذلك، فأشخصه عمر وسأله عن يمينه فقال: ما حلفت إلا على حق. قال: فَلِمَ أمرت الجند حتى فعلوا ما فعلوا وقد وكلنا أمرك في يمينك إلى اللَّه تعالى، فارجع إلى عملك. فليس نجد الآن من يقوم مقامك، ولعلنا إن وجدنا من يكفينا عملك وليناه. فلما مضى عمر لسبيله وولى عثمان شكا جند البصرة شح أبي موسى، وشكا جند الكوفة ما نقموا عليه، فخشي عثمان ممالأة الفريقين على أبي موسى فعزله عن البصرة، وولاَّها أكرم الفتيان عبد اللَّه بن عامر بن كريز وكان من سادات قريش وهو الذي سقاه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ريقه حين حُمِلَ إليه طفلاً في مهده.
وأما عمرو بن العاص فإنما عزله، لأن أهل مصر أكثروا شكايته، وكان عمر قبل ذلك عزله لشيء بلغه عنه، ثم لما ظهرت توبته ردَّه، كذلك عزله عثمان لشكاية رعيته، كيف والرافضة يزعمون أن عمراً كان منافقاً في الإسلام، وعلى زعمهم فقد أصاب عثمان في عزله، فكيف يعترضون على عثمان بما هو مصيب فيه عندهم؟.
وأما تولية عبد اللَّه فمن حسن النظر عنده، لأنه تاب وأصلح عمله، وكانت له فيما ولاَّه آثار محمودة، فإنه فتح من تلك النواحي طائفة كبيرة حتى انتهى في إغارته إلى الجزائر التي في بحر بلاد الغرب وحصَّل في فتوحه ألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار سوى ما غنمه من صنوف الأموال، وبعث بالخمس منها إلى عثمان، وفرَّق الباقي في جنده، وكان في جنده جماعة من الصحابة ومن أولادهم، كعقبة بن عامر الجهني، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد اللَّه بن عمرو بن العاص قاتلوا تحت رايته، وأدُّوا طاعته، ووجدوه أقدر على سياسة الأمر من عمرو بن -[203]- العاص، ثم أبان عن حسن رأي في نفسه عند وقوع الفتنة فإنه حين قتل عثمان اعتزل الفريقين، ولم يشهد مشهداً، ولم يقاتل أحداً بعد قتال المشركين.
وأما عمار بن ياسر فأخطؤوا في ظن عزله، فإنه لم يعزله وإنما عزله عمر. كان أهل الكوفة قد شكوه، فقال عمر: من يعذرني من أهل الكوفة، إن استعملت عليهم تقياً استضعفوه، وإن استعملت عليهم قوياً فجروه، ثم عزله وولَّى المغيرة بن شعبة، فلما ولِيَ عثمان شكوا المغيرة إليه، وذكروا أنه ارتشى في بعض أموره، فلما رأى ما وقرَّ عندهم منه استصوب عزله عنهم، ولو كانوا مفترين عليه. والعجب من هؤلاء الرافضة كيف ينقمون على عثمان عزل المغيرة وهم يكفرون المغيرة على أنا نقول: ما زال ولاة الأمر قبله وبعده يعزلون من أعمالهم من رأوا عزله ويولون من رأوا توليته بحسب ما تقتضيه أنظارهم. عزل عمر خالد بن الوليد عن الشام وولى أبا عبيدة، وعزل عماراً عن الكوفة وولاَّها المغيرة بن شعبة، وعزل علي قيس بن سعد عن مصر وولاَّها الأشتر النخعي. ألا ترى إلى معاوية وكان مما ولى عمر لما ضبط الجزيرة وفتح البلاد إلى حدود الروم وفتح جزيرة قبرس وغنم منها مائة ألف رأس سوى ما غنم من البياض وأصناف المال وحمدت سيرته وسراياه أقره على ولايته.
وأما ابن مسعود فسيأتي الاعتذار عنه فيما بعد.
هذا جواب المحب الطبري معتذراً عن عثمان في المسألة الأولى التي ذكرها. ونحن نقول: إن الخليفة له أن يعزل من شاء من الولاة ممن يرتكبون وزراً، أو يشك في سيرتهم، ويعين من يثق بهم، لكنهم نقموا على عثمان أنه كان يراعي أقاربه، ويخصهم بالولاية، ويتسامح معهم. وإن الفتنة لم تنشأ عن شكوى خاصة بل عن عدة أمور كانت في مجموعها سبباً في السخط العام. فعبد اللَّه بن عامر الذي ولاَّه عثمان البصرة مكان أبي موسى كان ابن خاله، وكان عمره خمساً وعشرين عاماً وقتئذٍ مع اعترافنا بفتوحه وشجاعته، وولى مصر عبد اللَّه بن سعد ابن أبي سرح وهو أخوه من الرضاعة، وكان كاتب الوحي، ثم ارتد مشركاً، وأهدر رسول اللَّه دمه إلى أن أخذ عثمان له الأمان. نعم إنه فتح شمال إفريقية لكن عمراً المعزول عن ولاية مصر، والذي له الفضل في فتحها قد أغضبه أن يعزل فوجد مجالاً للطعن على الوالي الجديد من هاتين الناحيتين وغيرهما، وظل ناقماً طاعناً على عثمان إلى النهاية، ولا يخفى أن عمراً كان داهية في وسعه توسيع دائرة الفتنة.
أما عبد اللَّه بن مسعود الذي عزله عثمان عن الكوفة، فقد كان سيَّره عمر بن الخطاب إلى الكوفة وكتب إلى أهلها:
"إني قد بعثت عمار بن ياسر أميراً، وعبد اللَّه بن مسعود معلماً ووزيراً، وهما من النجباء من أصحاب رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من أهل بدر فاقتدوا بهما وأطيعوا واسمعوا قولهما، -[204]- وقد آثرتكم بعبد اللَّه على نفسي".
فهذه هي شهادة عمر في عمار بن ياسر وعبد اللَّه بن مسعود. وعمر لا يحابي أحداً ولا يقول غير الحق. فعزل عبد اللَّه بن مسعود أحدث استياء لما له من العلم والفضل وعن زيد بن وهب قال: لما بعث عثمان إلى عبد اللَّه بن مسعود يأمره بالقدوم عليه بالمدينة وكان بالكوفة اجتمع الناس عليه فقالوا: أقم ونحن معك نمنعك أن يصل إليك شيء تكرهه. فقال عبد اللَّه: إن له عليّ حق الطاعة، وإنها ستكون أمور وفتن فلا أحب أن أكون أوّل من فتحها، فرد الناس وخرج إليه.
قال المحب الطبري:
"الثاني: ما ادعوا عليه من الإسراف في بيت المال وذلك بأمور منها أن الحكم بن العاص لما ردَّه من الطائف إلى المدينة، وقد كان طرده النبي صلى اللَّه عليه وسلم وصله من بيت المال بمائة ألف درهم وجعل لابنه الحارث سوق المدينة يأخذ منها عشور ما يباع فيها. ومنها أنه وهب لمروان خمس أفريقية. ومنها أن عبد اللَّه بن خالد بن أسد بن أبي العاص بن أمية قدم عليه فوصله بثلاثمائة ألف درهم. ومنها ما رواه أبو موسى قال: كنت إذا أتيت عمر بالمال والحلية من الذهب والفضة، لم يلبث أن يقسم بين المسلمين حتى لا يبقى منه شيء. فلما ولي عثمان أتيت به فكان يبعث به إلى نسائه وبناته. فلما رأيت ذلك أرسلت دمعي وبكيت. فقال لي: ما يبكيك؟ فذكرت له صنيعه وصنيع عمر. فقال: رحم اللَّه عمر كان حسنة وأنا حسنة ولكلٍ ما اكتسب. قال أبو موسى: إن عمر كان ينزع الدرهم الفرد من الصبي من أولاده فيردّه في مال اللَّه ويقسّمه بين المسلمين، فأراك قد أعطيت إحدى بناتك مجمراً [1] من الذهب مكللاً باللؤلؤ والياقوت، وأعطيت الأخرى درتين لا يعرف كم قيمتهما. فقال: إن عمر عمل برأيه ولا يألو عن الخير، وأنا أعمل برأيي ولا آلو عن الخير. وقد أوصاني اللَّه تعالى بذوي قراباتي، وأنا مستوصٍ بهم وأبرّ برّهم. ومنها ما قالوا إنه أنفق أكثر بيت المال في ضياعه ودوره التي اتخذها لنفسه ولأولاده. وكان عبد اللَّه بن أرقم ومعيقيب على بيت المال في زمن عمر فلما رأيا ذلك استعفيا فعزلهما، وولاَّه زيد بن ثابت وجعل المفاتيح بيده. فقال له يوماً: قد فضل في بيت المال فضلة خذها لك، فأخذها زيد فكانت أكثر من مائة ألف درهم".
"وأما القصة الثانية فهو ما ادعوه من إسرافه في بيت المال فأكثر ما نقلوه عنه مفترى عليه ومختلق وما صحَّ منه فعذره فيه واضح. وأما ردّه الحكم إلى المدينة فقد ذكر رضي اللَّه عنه أنه كان استأذن النبي صلى اللَّه عليه وسلم في ردّه إلى المدينة فوعده بذلك. فلما ولى أبو بكر سأله عثمان ذلك فقال: كيف أرده إليها وقد نفاه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم. فقال له عثمان ذلك. فقال له: إني لم أسمعه يقول لك ذلك، ولم -[205]- تكن مع عثمان بينة على ذلك، فلما ولي عمر سأله ذلك فأبى، ولم يريا الحُكم بقول الواحد، فلما ولى قضى بعلمه، وهو قول أكثر الفقهاء، وهو مذهب عثمان، وهذا بعد أن تاب الحكم عما كان طرده لأجله، وإعانة التائب مما تحمد.
وأما صلته من بيت المال بمائة ألف، فلم تصح، وإنما الذي صح أنه زوَّج ابنه من ابنة الحارث بن الحكم، وبذل لها من مال نفسه مائة ألف درهم، وكان رضي اللَّه عنه ذا ثروة في الجاهلية والإسلام، وكذلك زوَّج ابنته أم أبان من ابن مروان بن الحكم، وجهَّزها من خاص ماله بمائة ألف لا من بيت المال، وهذه صلة رحم يحمد عليها.
وأما طعنهم على عثمان أنه وهب خمس أفريقية من مروان بن الحكم فهو غلط منهم، وإنما المشهور في القضية أن عثمان كان جهز ابن أبي سرح أميراً على آلاف من الجند، وحضر القتال بأفريقية. فلما غنم المسلمون أخرج ابن أبي سرح الخمس من الذهب وهو خمسمائة ألف دينار فأنفذها إلى عثمان، وبقي من الخمس أصناف من الأثاث والمواشي مما يشق حمله إلى المدينة فاشتراها مروان منه بمائة ألف درهم، نقد أكثرها وبقيت منها بقية، ووصل عثمان مبشراً بفتح أفريقية وكانت قلوب المسلمين مشغولة خائفة أن يصيب المسلمين من أفريقية نكبة، فوهب له عثمان ما بقي عليه جزاء ببشارته، وللإمام أن يصل المبشرين من بيت المال بما رأى على قدر مراتب البشارة.
وأما ذكره من صلته عبد اللَّه بن خالد بن أسد بثلاثمائة ألف درهم فإن أهل مصر عاتبوه على ذلك لما حاصروه، فأجابهم بأنه استقرض له من ذلك من بيت المال، وكان يحتسب لبيت المال ذلك من نفسه حتى وفَّاه.
وأما دعواهم أنه جعل للحارث بن الحكم سوق المدينة يأخذ عشور ما يباع فيه فغير صحيح. وإنما جعل إليه سوق المدينة ليراعي أمر المثاقيل والموازين فتسلط يومين أو ثلاثة على باعة النوى واشتراه لنفسه، فلما رُفع ذلك إلى عثمان أنكر عليه وعزله وقال لأهل المدينة: إني لم آمره بذلك. ولا عتب على السلطان في جور بعض العمال إذا استدرك بعد علمه. وقد روي أنه جعل على سوق المدينة وجعل له كل يوم درهمين وقال لأهل المدينة: إذا رأيتموه سرق شيئاً فخذوه منه وهذا غاية الإنصاف.
وأما قصة أبو موسى فلا يصح شيئاً منها. فإنه رواه ابن إسحاق عمن حدثه عن أبي موسى ولا يصح الاستدلال برواية المجهول. وكيف يصح ذلك وأبو موسى ما ولى لعثمان عملاً إلا في آخر السنة التي قتل فيها ولم يرجع إليه، فإنه لما عزله عن البصرة بعبد اللَّه بن عامر لم يتول شيئاً من أعماله إلا إرسال أهل الكوفة إليه في السنة التي قتل فيها أن يوليه الكوفة فولاه إياها ولم يرجع إليه. ثم يقال للخوارج والروافض إنكم تكفرون أبا موسى. فلا حجة في دعوى بعضهم على بعض -[206]-.
وأما عزل ابن الأرقم ومعيقيب عن ولاية بيت المال، فإنهما أسنا وضعفا عن القيام بحفظ بيت المال. وقد روي أن عثمان لما عزلهما خطب الناس وقال: "ألا إن عبد اللَّه بن الأرقم لم يزل على جرايتكم زمن أبي بكر وعمر إلى اليوم وأنه كبر وضعف وقد ولينا عمله زيد بن ثابت".
وما نسبوه إليه من صرف مال بيت المال في عمارة دوره وضياعه المختصة، فبهتان افتروه عليه. وكيف وهو من أكثر الصحابة مالاً؟. وكيف يمكن ذلك بين أظهر الصحابة مع أنه الموصوف بكثرة الحياء، إذ أن الملائكة تستحي منه لفرط حيائه.
أعاذنا اللَّه من فرطات الجهل وموبقات الهوى آمين آمين.
وقولهم: إنه دفع إليه ما فضل من بيت المال افتراء واختلاق بل الصحيح أنه أمر بتفرقة المال على أصحابه ففضل في بيت المال ألف درهم فأمره بإنفاقها فيما يراه أصلح المسلمين، فأنفقها زيد على عمارة مسجد رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بعد ما زاد عثمان في المسجد زيادة كبيرة وكل واحد منهما مشكور محمود على فعله.
وإنا نقول: إن المحب الطبري بدأ دفاعه من هذه المسألة بقوله: إن أكثر ما ادَّعوه من إسرافه في بيت المال فأكثر ما نقلوه عنه مفترى عليه ومختلق، وما صحَّ عنه فعذره فيه واضح اهـ. ولم يقل: إن كل ما نقل مفترى عليه ومختلق. وكان عمر رضي اللَّه عنه لا يدع شيئاً حتى يوزعه على المسلمين في الحال. وقد ذكرنا في كتاب "الفاروق عمر ابن الخطاب" أن أبا موسى الأشعري أهدى لامرأة عمر رضي اللَّه عنه طنفسة [2] قدرها ذراع وشبر، فدخل عليها عمر فرآها فقال: أنَّى لك هذه؟ فقالت: أهداها لي أبو موسى الأشعري. فأخذها، فضرب بها رأسها حتى نَغَضَ رأسها. ثم قال: عليَّ بأبي موسى الأشعري وأتعبوه. فأُتي به قد أتعب وهو يقول: "لا تعجل عليَّ أمير المؤمنين". فقال عمر: "ما يحملك على أن تهدي لنسائي"؟ ثم أخذها عمر فضرب بها فوق رأسه وقال: "خذها فلا حاجة لنا فيها". إن عمر رفض هذه الهدية البسيطة، وهي لا تساوي شيئاً اجتناباً لكل شبهة حتى لا تسقط هيبته وتسوء سمعته، وقد قيل: من وضع نفسه مواضع التهم فلا يلومنَّ من أساء الظن به.
ونحن نودُّ أن يكون ما قيل عن عثمان من التصرف في مال بيت المال غير صحيح.
وقد كان عبد اللَّه بن الأرقم على بيت المال زمن عمر، ثم ولاَّه عثمان بيت المال وأجازه بثلاثين ألفاً فأبى أن يقبلها وقال: عملت للَّه وإنما أجري على اللَّه. وكان عمر يقول: ما رأيت أخشى للَّه تعالى من عبد اللَّه بن الأرقم. وجاء في أسد الغابة أنه استعفى عثمان من ذلك فأعفاه من غير أن يذكر السبب. على أن استعفاء عبد اللَّه بن الأرقم مع ما عرف عنه من أمانة، واستعفاء معيقيب أمر فيه نظر. فهل كان كلاهما لا يصلح لبيت المال لكبر سنه؟ -[207]-.
ومما أُخِذَ على عثمان أنه لما حمل إليه خمس غنائم أفريقية اشتراه مروان بن الحكم بمبلغ 500. 000 دينار فوضعها عند عثمان بدلاً من أن يفرق الخمس على المسلمين جرياً على سنة صاحبيه في توزيع الغنائم.
وإنا نكتفي بهذا القدر ففيما ذكرناه الكفاية، ونكرر أننا نجلّ قدر عثمان وأنه ذهب ضحية أقاربه الذين تسلطوا عليه وكلفوه ما لا يطيق.

[1] المجمر والمجمَّرة: التي يوضع فيها الجمر مع المدخنة. [القاموس المحيط، مادة: جمر] .
[2] طنفسة: بساط.
اسم الکتاب : عثمان بن عفان ذو النورين المؤلف : محمد رضا    الجزء : 1  صفحة : 201
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست