responsiveMenu
صيغة PDF شهادة الفهرست
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
اسم الکتاب : عثمان بن عفان ذو النورين المؤلف : محمد رضا    الجزء : 1  صفحة : 143
- كيف بدأ السخط على عثمان [1] وكيف تدرجت الفتنة؟:
ذكرنا في كتابنا "عمر بن الخطاب" أن عمرو بن العاص هو الذي أشار عليه بفتح مصر، فتردد ثم جهزه بجيش، ثم صار يمده من آن لآخر حسب الضرورة إلى أن تمكَّن عمرو من غزو مصر وضمَّها إلى الخلافة العربية. فإليه يرجع الفضل في فتحها. وكان عمر رضي اللَّه عنه يستبطئ عمراً في جباية الخراج، ويستقل ما يجبيه منها، وقد كاتبه في ذلك إلا أن عمراً لم يشأ إرهاق المصريين، فوضع عنهم كثيراً من الضرائب التي أثقلت كواهلهم، وكانت موضع شكواهم من الحكم الروماني. ومات عمر وعلى مصر عمرو بن العاص وعلى قضائها خارجة بن حذافة [2] . فلما ولي عثمان أقرهما سنتين، وقيل: أكثر، ثم عزل عمراً واستعمل عبد اللَّه بن سعد بن أبي سرح أخا عثمان من الرضاعة، فكان سبباً في سخط عمرو على عثمان، فأخذ يطعن عليه سراً وعلانية. وهذا أمر طبيعي -[144]-.
أولاً: لأن عمراً كان يرى أنه صاحب الفضل في فتح مصر، وأنه لم يرتكب وزراً يستحق عليه العزل [3] .
ثانياً: لأن الذي خلفه هو عبد اللَّه بن سعد وسيرته معلومة للصحابة فهو الذي ارتد مشركاً زمن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، ثم أذاع أنه كان يصرف رسول اللَّه حيث أراد عندما كان يملي عليه القرآن فكان يملي عليه "عزيز حكيم" فيقول: أو "عليم حكيم" فيقول: نعم. كل صواب. فلما كان يوم فتح مكة أمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم بقتله، فتشفع له عثمان. تحدَّث الناس في سيرة الوالي الجديد على مصر واستاء كثير من هذا التعيين، ووجد عمرو سلاحاً للطعن على عثمان.
وروى الواقدي أنه لما نزع عثمان عمرو بن العاص من مصر غضب عمرو غضباً شديداً وحقد على عثمان. وقد أراد عثمان أن يظهر لعمرو أن عبد اللَّه بن سعد جدَّ واجتهد، وحصَّل من مصر أكثر مما كان يحصله عمرو. فلما بعث عبد اللَّه بن سعد إلى عثمان بمال من مصر قال: يا عمرو، هل تعلم أن تلك اللقاح درَّت بعدك؟ فقال عمرو: وإن فصالها هلكت.
لم ينقطع عمرو عن الطعن على عثمان، ومع ذلك نرى عثمان يستشيره في جملة من استشارهم في أمر الفتنة، فأظهر له أنه لا يزال ساخطاً عليه ودعاه إلى الاعتزال ورماه بالجور، وهو الوحيد الذي دعاه إلى الاعتزال من بين من استشارهم إذ قال له: "أرى أنك قد ركبت الناس بما يكرهون فاعتزم أن تعتزل، فإن أبيت فاعتزم عزماً وامض قدماً" ولا عبرة بما قاله له بعد انصراف القوم "لا واللَّه يا أمير المؤمنين لأنت أعز عليَّ من ذلك الخ".
وقد عاب على عثمان محمد بن أبي حذيفة بعد غزوة الصواري وقال: لقد تركنا خلفنا الجهاد، فيقول الرجل: وأي جهاد! فيقول: عثمان بن عفان فعل كذا وكذا حتى أفسد على الناس فقدموا بلدهم. وقد أفسدهم وأظهروا من القول ما لم يكونوا ينطقون به واشترك مع محمد بن حذيفة في الطعن على عثمان محمد بن أبي بكر، واستحلاَّ دمه وقالا: استعمل عبد اللَّه بن سعد، رجلاً كان رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم أباح دمه ونزل القرآن بكفره، واستعمل سعيد بن العاص وعبد اللَّه بن عامر، وهو ابن خال عثمان، فانتشرت هذه المطاعن في مصر وغيرها.
أما في الكوفة فإن عثمان عزل سعد بن أبي وقاص لما حدث بينه وبين ابن مسعود من المشادة التي تقدَّم ذكرها وكان ابن مسعود على بيت المال لكنه لم يعزله، بل أقره وسعد بن أبي وقاص كما نعلم من سيرته أحد المبشرين بالجنة وأحد الستة الذين رشَّحهم عمر بن -[145]- الخطاب للخلافة، وأول من أراق دماً في سبيل اللَّه وكان يقال له: "فارس الإسلام". واستعمله عمر على الجيوش التي بعثها إلى بلاد الفرس، وكان أمير الجيش الذي هزم الفرس بالقادسية وبجلولاء وفتح المدائن، وولاه عمر العراق. هذا هو سعد بن أبي وقاص الذي عزله عثمان عن الكوفة فمن هو الذي ولاَّه خلفاً له؟ لقد ولَّى الوليد بن عقبة أخا عثمان لأمه وهو الذي نزل في حقه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذَّينَ آمَنُوا إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبأٍ فَتَبَيَّنُوا} . [الحجرات: 6] .
نعم، إن الوليد كان شاعراً شجاعاً، وكان أحب إلى الناس وأرفقهم بهم لكنهم مع ذلك طعنوا عليه لقرابته من عثمان واتهموه بشرب الخمر فأقام عليه الخليفة الحدَّ، وعزله وولَّى سعيد بن العاص مكانه، وهو أمويٌّ من أشراف قريش، قتل أبوه العاص يوم بدر كافراً قتله علي ابن أبي طالب لكن الفتنة لم تخمد بل اشتدت، فتطاول عليه نفر من أشراف الكوفة، وضربوا أحد أتباعه ضرباً مبرحاً، فسيَّرهم إلى الشام بأمر عثمان، وكان بينهم وبين معاوية ما كان مما ذكرناه في موضعه ولما عادوا أخيراً بثوا الفتنة وطلبوا عزل سعيد، فأجاب عثمان لطلبهم لئلا يكون لهم حجة عليه وولَّى أبا موسى الأشعري كما أرادوا.
غير أن الفتنة كان قد استفحل خطبها واندلع لهيبها، فكاتب أصحاب رسول اللَّه بعضهم بعضاً وكذبوا علياً رضي اللَّه عنه وكان غير راضٍ عن تصرفات عثمان، ومحاباته لأقاربه. وبالطبع كان لعليّ أتباع يرون رأيه فدخل عليه وذكر له أنه يجلُّ قدره لصحبته لرسول اللَّه وما نال من صهره. وذكَّره بحديث النبي صلى اللَّه عليه وسلم في شأن الإمام الجائر، لكن عثمان كان يرى أنه ولَّى من ولاَّهم عمر ومع ذلك لم يجرؤ أحد أن يعتب عليه، فردَّ عليه عليّ أن عمر كان شديداً لا يتسامح مع أحد إذا هفا، أو أخطأ. ومعاوية يفعل ما يشاء باسم عثمان الذي ضعف ورقَّ على أقاربه، ثم صعد عثمان إلى المنبر وخطب خطبته التي نشرناها، فاشتد سخط الناس عليه لعدم تحوَّله عن خطته وانتحال المعاذير لنفسه وتهديدهم باستعمال الشدة معهم.
وقد حدث في سنة 30 هـ أن سقط خاتم رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم من إصبع عثمان في بئر أريس، ثم ضاع، فتشاءم المسلمون لضياع هذا الخاتم وقالوا: إن عثمان لما مال عن سيرة من كان قبله كان أول ما عوقب به ذهاب خاتم رسول اللَّه من يده. وهذا الحادث من سوء حظ عثمان. وفي السنة نفسها قام أبو ذر الغفاري الصحابي المعروف بزهده ونسكه في وجه معاوية، وعاب عليه جمع المال وقال: "يا معشر الأغنياء وأسواء الفقراء بشِّر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل اللَّه بمكاوٍ من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم".
فلما ثار الفقراء على الأغنياء شكا الأغنياء إلى معاوية ما يلقون من الناس، فخشي معاوية الفتنة، وكتب إلى عثمان بما فعله أبو ذر، فاستدعاه إلى المدينة، فاختار أبو ذر الخروج إلى -[146]- الربذة، وأقام بها إلى أن مات. وادعى بعضهم أن عثمان نفاه، وكان الذي حرَّض أبا ذر على القيام في وجه معاوية ابن السوداء الذي يدعى عبد اللَّه بن سبأ.

[1] راجع كتاب عمر بن الخطاب للمؤلف، تحقيق محمد أمين الضنَّاوي، طبعة سنة 1997، دار الكتب العلمية بيروت.
[2] هو خارجة بن حُذافة بن غانم، من بني كعب بن لؤي، صحابي من الشجعان، كان يُعدُّ بألف فارس، أمدَّ به عمر بن الخطاب عمرو بن العاص، فشهد معه فتح مصر وولي شرطتها، واتفق أن عمراً اشتكى بطنه ليلة الائتمار بقتله وقتل علي ومعاوية، فاستخلف خارجة على الصلاة بالناس، فقتله عمرو بن بكر الذي انتدب لقتل عمرو بن العاص، وقال قاتله لما علم خطأه: أردت عمر وأراد اللَّه خارجة. للاستزادة راجع: الإصابة ج 1/ص 399، ابن الأثير، الكامل في التاريخ فقتل علي.
[3] قال الأستاذ واشنطون إيرفنج في كتابه "محمد وخلفاؤه": إن من أعظم الأخطاء التي ارتكبها عثمان عزل عمرو بن العاص عن ولاية مصر وتولية عبد اللَّه بن سعد أخيه من الرضاعة مكانه.
اسم الکتاب : عثمان بن عفان ذو النورين المؤلف : محمد رضا    الجزء : 1  صفحة : 143
   ««الصفحة الأولى    «الصفحة السابقة
   الجزء :
الصفحة التالیة»    الصفحة الأخيرة»»   
   ««اول    «قبلی
   الجزء :
بعدی»    آخر»»   
صيغة PDF شهادة الفهرست