اسم الکتاب : المعجم الجامع في تراجم المعاصرين المؤلف : مجموعة من المؤلفين الجزء : 1 صفحة : 280
نبذة مختصرة عن السيرة الذاتية
لفضيلة العلامة الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطي
العلامة الشنقيطي / صاحب أضواء البيان
أكرم كساب
في وسط قارة إفريقيا وفي قرية تسمى شنقيط كانت نشأته، وبين مكة والمدينة كانت شهرته، وبرع في العلوم كلها حتى فاق أقرانه، أراد مكة حاجًا وزائرًا، وأراده الله معلمًا ومفسرًا، إن تحدث في التفسير خِلته الطبري، وإن أنشأ في الشعر حسبته المتنبي،وإن جال في الحديث وعلومه ظننته ابن حجر العسقلاني، مفسرًا، ومحدثًا، وشاعرًا، وأديبًا، إنه صاحب " أضواء البيان " العالم الولي الزاهد الورع العلامة الشنقيطي، فمن يا ترى هذا الرجل؟ وأين نشأ؟ وكيف تلقى علمه؟ وكيف كانت أخلاقه؟ وما هو أضواء البيان هذا؟
أولاً التعريف بالمؤلف:
اسمه ونسبه:
هو محمد الأمين بن محمد المختار الجنكي الشنقيطي، ولد رحمه الله بالقطر المسمى شنقيط من دولة موريتانيا، وكان مولده في عام 1325هـ / 1905م.
نشأته وطلبه للعلم:
نشأ رحمه الله يتيمًا فقد توفي أبوه وهو صغير يقرأ في جزء " عم " فنشأ في بيت أخواله، وكان بيت علم، فحفظ القرآن على يد خاله، وعمره عشر سنوات، وتعلم رسم المصحف على يد ابن خاله، وقرأ عليه كذلك التجويد.
وأخذ الأدب وعلوم اللغة على يد زوجة خاله، فكانت مدرسته الأولى بيت خالته، فنعم البيت كان.
أما بقية الفنون فتعلم الفقه المالكي وهو السائد في بلاده، فدرس مختصر خليل على يد الشيخ محمد بن صالح إلى قسم العبادات، ثم درس عليه أيضًا ألفية بن مالك، ثم أخذ بقية العلوم على مشايخ متعددين، وكلهم من الجنكيين، وهي القبيلة التي ينتمي إليها الشيخ، وكانت معروفة بالعلم حتى قيل:" العلم جنكي " وكانت الطريقة المعهودة في بلاده هي أن يبدأ الطالب بفن واحد من الفنون، ويبدا بكتابة المتن في اللوح الخشبي فيكتب قدر ما يستطيع حفظه، ثم يمحوه ثم يكتب قدرًا أخر، غير أنه ـ رحمه الله ـ تميز في طلب العلم فألزمه بعض مشايخه بأن يقرن بين كل فنين، حرصًا على سرعة تحصيله، وقد انشغل ـ رحمه الله بطلب العلم حتى تأخر في الزواج، ولما كلمه البعض في أمر الزواج رد عليهم قائلاً:
فقلت لهم دعوني إن قلبي من الغي الصراع اليوم صاح
الشيخ والشعر:
كان الشيخ ـ رحمه الله ـ ذا قريحة وقادة، وكانت شاعريته رقراقة، ومعانيه عذبة فياضة، وأسلوبه سهل جزل، وبالرغم من هذا كله فقد كان رحمه الله يتباعد عن قول الشعر.
سأله تلميذه الشيخ عطية محمد سالم ـ رحمه الله ـ عن سبب تركه للشعر مع قدرته عليه وإجازته فيه فقال: تذكرت قول الشافعي فيما ينسب إليه:
ولولا الشعر بالعلماء يزري لكنت اليوم أشعر من لبيد
ومثل هذا قاله ابنه عبد الله، وقال أيضًا: وجدت شعرًا لأبي عند أحد الناس فأردت حفظه، فقال لي: استأذن أباك، فاستأذنته فزجرني بشدة، ونهاني عن تعلمه ونسبته إليه.
وحدث أن قدم يومًا ـ رحمه الله ـ وهو في مقتبل شبابه، ولم يكن يعرفه فسأله من يكون فأجاب الشيخ ـ رحمه الله ـ مرتجلاً:
هذا فتى من بني جاكاني قد نزلا به الصبا عن لسان العرب قد عدلا
رمت به همة علياء نحوكم إذ شام برق علوم نوره اشتعلا
فجاء يرجو ركامًا من سحائبه تكسو لسان الفتى أزهاره حللا
إذا ضاق ذرعًا بجهل النحو ثم أبا ألا يميز شكل العين من فعلا
قد أتى اليوم صبا مولعًا كلفا بالحمد لله لا أبغي له بدلا
أعماله وجهوده في نشر العلم قبل قدوم المملكة:
كانت أعماله ـ رحمه الله ـ كعمل غيره من العلماء: الدرس والفتيا، واشتهر ـ رحمه الله ـ بالقضاء وبالفراسة فيه، وقد كان الناس يفدون إليه من أماكن بعيدة، وكان عضوًا في لجنة الدماء التي تعرض عليها أحكام القصاص من القتلى والتي كانت تتكون من عضوين للتصديق على أحكام الحاكم الفرنسي.
أخلاقه:
أما عن أخلاق الشيخ ـ رحمه الله ـ فحدث ولا حرج، فهو آية في أخلاقه، كرمه، وعفته، وشجاعته، وزهده، وترفُّع نفسه، فهو صاحب ميزة فيها يقول تليمذه الشيخ عطية محمد سالم: فهذا ما يستحق أن يفرد بحديث وإني لا أستطيع إلا تصويره ولا يسعني في هذا الوقت تفصيله.
لم تكن الدنيا تساوي شيئًا عنده، وكان غير مكترث بها، على طول فترة إقامته بالمملكة لم يطلب عطاء ولا راتبًا ولا ترفيعًا لمرتبه، ولا حصولاً على مكافأة، ولكن ما جاء من غير سؤال أخذه، وما حصل عليه لم يكن ليستبقيه لنسفه؛ بل يوزعه على غيره كما يقول الشيخ عطية محمد سالم ـ رحمه الله ـ: كان كثير التغاضي عن أمور تخصه هو، وتتعلق بنفسه فإن سئل عن ذلك تمثل قول الشاعر:
ليس الغبي بسيد في قومه لكن سيد قومه المتغابي
تواضعه:
أما عن تواضعه فقل إنه صاحبه، كان إذا سئل مسألة في أخريات حياته، تباعد عن الفتيا، فإذا اضطر قال: لا أتحمل في ذمتي شيئًا العلماء يقولون كذا، وكذا.
يقول الشيخ عطية محمد سالم: سألته مرة عن ذلك ـ أي تحفظه في الفتيا ـ فقال: إن الإنسان في عافية ما لم يبتلى، والسؤال ابتلاء، لأنك تقول عن الله ولا تدري أتصيب حكم الله أم لا، فما لم يكن عليه نص قاطع ـ من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وجب التحفظ فيه ويتمثل بقول الشاعر:
إذا ما قتلت الشيء علمًا فقل به ولا تقل الشيء الذي أنت جاهله
فمن كان يهوى أن يرى متصدرًا ويكره لا أدري أصيب مقاتله
ألا ليت شعري ألا يتأمل المتعجلون في الفتوى لمثل هذا، ألا يرحم ناشئة طلاب العلم أنفسهم والناس من الفتاوى السريعة، والأجوبة الجاهزة، والأحكام الجريئة.
بل وأعجب من هذا كله أنه كان يردد على مسامع تلامذته " صار أمثالنا علماء لما مات العلماء " وكأنه كان يعلم تلامذته الإقلال من الفتوى، والتثبت من العلم.
موقف رائع:
على الرغم من أن الشيخ كان جوهرة ثمينة،وقد ملئ علمًا من مفرق رأسه إلى أخمص قدميه، أو كما يقول عنه الاستاذ محمد المجذوب ـ رحمه الله ـ: " ثقافة موسوعية، حتى ليخيل إليك وهو يحضر تقريراته منها أنها تخصصه الذي لا يكاد يعدوه، شأنه في ذلك شأن الأسلاف الكبار ".
جهود الشيخ الدعوية في المملكة:
خرج الشيخ في رحلته إلى الحج والتي ألف فيها كتابًا خاصًا احتوى على نكات فقهية ودروس علمية ومحاورات أدبية، وقد كانت نيته الحج ولم يكن في خلده أن يقيم بالمملكة، ولكنه أراد أمرًا وأراد الله خيرًا وفيرًا، فمكث الشيخ في المملكة واستقر به المقام في المدينة المنورة ورغب ـ رحمه الله ـ في هذا الجوار الكريم، وقام بتفسير القرآن مرتين وتوفي ـ رحمه الله ـ ولم يكمل الثالثة.
وفي سنة 1317 هـ افتُتح معهد علمي بالرياض وكلية للشريعة وأخرى للغة، واختير الشيخ للتدريس بالمعهد والكليتين فتولى تدريس التفسير والأصول إلى سنة 1381هـ.
ومكث الشيخ بالرياض عشر سنوات وكان يقضي الإجازة بالمدينة ليكمل التفسير، وكان ـ رحمه الله ـ يدرس في مسجد الشيخ محمد آل الشيخ في الأصول،كما كان يخص بعض الطلاب بدرس آخر في بيته، وقد كان بيته أشبه بمدرسة يؤمها الصغير والكبير والقريب والبعيد.
ولما أنشئت الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة كان الشيخ ـ رحمه الله ـ علمًا من أعلامها ووتدًا من أوتادها، يرجع إليه طلابها كما يرجع إليه شيوخها، وفي سنة 1386هـ افتتح معهد القضاء العالي بالرياض فكان الشيخ يذهب لإلقاء المحاضرات المطلوبة في التفسير والأصول.
ولما شكلت هيئة كبار العلماء، كان ـ رحمه الله ـ عضوًا من أعضائها، وكان رئيسًا لإحدى دوراتها.
كما كان ـ رحمه الله ـ عضوًا في رابطة العالم الإسلامي.
مؤلفاته:
خاض الشيخ ـ رحمه الله ـ غمار التأليف منذ نعومة أظفاره، فألف وهو في بلاده:
1- نظمًا في أنساب العرب.. وكان ذلك قبل البلوغ.
2- رجزًا في فروع مذهب مالك.
3- ألفية في المنطق.
4- نظمًا في الفرائض.
وهذه المؤلفات الأربعة مازالت مخطوطة
وألف في بلاد الحجاز:
1- منع المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز.
2- دفع إيهام الاضطراب عن آي الكتاب.
3- مذكرة الأصول على روضة الناظر.
4- آداب البحث والمناظرة.
5- أضواء البيان لتفسير القرآن بالقرآن.
كما أن هناك العديد من المحاضرات.
وفاته:
توفي ـ رحمه الله ـ ضحى يوم الخميس 17 من ذي الحجة 1393هـ بمكة المكرمة مرجعه من الحج ودفن بمقبرة المعلاة بريع الحجون في مكة ـ رحمه الله ـ وجمعنا به في مستقر رحمته يوم القيامة.
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن:
يقع هذا الكتاب في سبعة أجزاء، وصل فيها الشيخ إلى قوله تعالى في سورة المجادلة: (أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون) (المجادلة/22) ووافقه المنية، فأكمل التفسير من بعده تلميذه الشيخ عطية محمد سالم ـ رحمه الله ـ.
المقصود من تأليف الشيخ لهذا التفسير:
1 - بيان القرآن بالقرآن لإجماع العلماء على أن أشرف أنواع التفسير وأجلّها تفسير كتاب الله بكتاب الله.
2 - بيان الأحكام الفقهية.
ومن ثم فإن الكتاب يصنف على أنه تفسير القرآن بالمأثور، فهو تابع فيه لمدرسة التفسير بالأثر، ويدخل كذلك في مدرسة التفسير الفقهية، ومن هنا فقد ذكره صاحب كتاب " اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر " مرتين، الأولى في المنهج أهل السنة والجماعة، والثانية في المدرسة الفقهية.
منهجه:
بيّن المؤلف ـ رحمه الله ـ غرضه من تأليف هذا التفسير بقوله: " واعلم أن من أهم المقصود بتأليفه أمران:
" أحدهما: بيان القرآن بالقرآن لإجماع العلماء على أن أشرف أنواع التفسير وأجلّها تفسير كتاب الله بكتاب الله، إذ لا أحد أعلم بمعنى كلام الله جلّ وعلا من الله جلّ وعلا، وقد التزمنا أنا لا نبين القرآن إلاّ بالقراءة سبعية سواء كانت قراءة أخرى في الآية المبينة نفسها، أو آية أخرى غيرها، ولا نعتمد على البيان بالقراءات الشاذة وربما ذكرنا القراءة الشاذة استشهادًا للبيان بقراءة سبعية، وقراءة أبي جعفر ويعقوب وخلف ليست من الشاذ عندنا ولا عند المحققين من أهل العلم بالقراءات.
والثاني: بيان الأحكام الفقهية في جميع الآيات المبينة ـ بالفتح ـ في هذا الكتاب، فإننا نبين ما فيها من الأحكام وأدلتها من السنة وأقوال العلماء في ذلك، ونرجح ما ظهر لنا أنه الراجح بالدليل، من غير تعصب لمذهب معين ولا لقول قائل، معين لأننا ننظر إلى ذات القول لا إلى قائله، لأن كل كلام فيه مقبول ومردود إلاّ كلامه صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن الحق حق ولو كان قائله حقيرًا.
وقد تضمن هذا الكتاب أمورًا زائدة على ذلك، كتحقيق بعض المسائل، اللغوية وما يحتاج إليه من صرف وإعراب والاستشهاد بشعر العرب وتحقيق ما يحتاج إليه فيه من المسائل الأصولية والكلام على أسانيد الأحاديث، كما سنراه إن شاء الله تعالى " (أضواء البيان في إيضاح القرآن 1/3ـ4) .
وقال أيضًا في بيان منهجه، رحمه الله تعالى: " واعلم أن مما التزمنا في هذا الكتاب المبارك أنه إن كان للآية الكريمة مبين من القرآن غير وافٍ بالمقصود من تمام البيان فإنا نتمم البيان من السنّة من حيث أنها تفسر للمبين باسم الفاعل " (أضواء البيان1/24) .
وقال أيضًا: " وربما كان في الآية الكريمة أقوال كلها حق وكل واحد منها يشهد له قرآن فإنا نذكرها ونذكر القرآن، الدال عليها من غير تعرض لترجيح بعضها؛ لأن كل واحد منها صحيح " (أضواء البيان1/20) .
وقد التزم ـ رحمه الله ـ بهذا فالتزم تفسير القرآن بالقرآن معتمدًا على القراءات السبع مبتعدًا عن القراءات الشاذة ومستندًا إلى السنّة النبوية الطاهرة معتبرًا لأقوال العلماء الثقات، لا يتعصب الرأي، ولا يحقر قولاً، بل ينظر إلى ذات القول لا إلى قائله، يستوفي الأقوال ويرجح بالدليل والبرهان، إن كنت أصوليًا وجدت في تفسيره دقائقه، وإن كنت من علماء الحديث وجدت فيه بدائعه، وإن كنت فقيهًا وجدت فيه وفاءه، وإن كنت من علماء العقيدة وجدت فيه صفاءها ونقاءها، بل عقيدة أهل السنة والجماعة التي لا تشوبها شائبة، وإن كنت من علماء كل هذا وجدت فيه رواءك وشفاءك.
طرق تفسيره:
أولاً: تفسير القرآن بالقرآن:
وهذا النوع من التفسير هو الذي أبرزه المؤلف في تفسيره وأعتني به عناية كبيرة، بل أفرده بدارسة قيّمة في مقدمة تفسيره، لا أحسبك تجدها بهذا الجمع والترتيب عند سواه، ولولا أنه ذكر من أنواع بيان القرآن بالقرآن أكثر من عشرين نوعًا في أكثر من عشرين صفحة لسقتها لك بحذافيرها، فهي الكنز عليك به من معدنه وتعجب حين تقرأ له بعد أن عدّد هذه الأنواع قوله: " واعلم ـ وفقني الله وإياك لما يحبه ويرضاه ـ أن هذا الكتاب المبارك ـ يعني تفسيره ـ تضمن أنواعًا كثيرة جدًا من بيان القرآن بالقرآن، غير ما ذكرنا تركنا ذكر غير هذا منها خوف إطالة الترجمة، والمقصود بما ذكرنا من الأمثلة مطلق بيان كثرة الأنواع التي تضمنها واختلاف جهاتها ـ وفي البعض تنبيه لطيف على الكل ـ والغرض أن يكون الناظر في الترجمة على بصيرة ما يتضمنه الكتاب في الجملة قبل الوقوف على جميع ما فيه " (أضواء البيان1/26) .
ولذا فلا تثريب عليّ أن ذكرت بعض الأمثلة لبعض الأنواع التي جاءت بعد تفسيره ـ رحمه الله ـ فهي أنواع كثيرة وأمثلة أكثر، فمن ذلك:
بيان الإجمال:
وقد ذكر ـ رحمه الله ـ في مقدمة تفسيره أن الإجمال يكون بسبب الاشتراك سواء كان الاشتراك في اسم أو فعل أو حرف.
ومن الاشتراك في اسم قوله تعالى: (وليطوفوا بالبيت العتيق) (الحج/29) ، قال ـ رحمه الله ـ في ذلك: " في المراد بالعتيق هنا للعلماء ثلاثة أقوال:
الأول: أن المراد به القديم، لأنه أقدم مواضع التعبد.
الثاني: أن الله أعتقه من الجبابرة.
الثالث: أن المراد بالعتق فيه الكرم، والعرب تسمي القديم عتيقًا وعاتقًا ومنه قول حسان ـ رضي الله عنه ـ:
كالمسك تخلطه بماء سحابة أو عاتق كدم الذبيح مدام
لأن مراده بالعاتق الخمر القديم التي طال مكثها في دنها زمنًا طويلاً وتسمي الكرم عتقًا ومنه قول كعب بن زهير:
قنواء في حرتيها للبصير بها عتق مبين وفي الخدين تسهيل
فقوله عتق مبين: أي كرم ظاهر ومنه قول المتنبي:
ويبين عتق الخيل في أصواتها
أي كرمها، والعتق من الجبابرة كالعتق من الرق، وهو معروف.
وإذا علمت ذلك فاعلم: أنه قد دلت آية من كتاب الله على أن العتيق في الآية بمعنى: القديم الأول، وهي قوله تعالى: (إن أول بيتٍ وضع للناس للذي ببكة مباركًا) (آل عمران/96) مع أن المعنيين الآخرين كلاهما حق، ولكن القرآن دل على ما ذكرنا، وخير ما يفسر به القرآن القرآن " (أضواء البيان5/686ـ687) .
وقد يكون الإجمال بسبب إبهام في اسم جنس جمعًا كان أو مفردًا أو اسم جمع أو صلة موصول أو معنى حرف.
ومثال الإجمال بسبب الإبهام في اسم جنس مجموع: قوله تعالى: (فتلقى آدم من ربه كلمات) (البقرة/37) قال ـ رحمه الله ـ في ذلك: " لم يبين هنا ما هذه الكلمات، ولكنه بيّنها في سورة الأعراف بقوله: (قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين) (الأعراف/23) (أضواء البيان1/63) .
ومثال الإجمال بسبب الإبهام في اسم جنس مفرد قوله تعالى: (وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا) (الأعراف/137) قال ـ رحمه الله ـ في تفسيرها: " لم يبين هنا هذه الكلمة الحسنى التي تمت عليهم ولكنه بينها في القصص بقوله: (ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض، ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين * ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون) (القصص/5، 6) (أضواء البيان2/297) .
ومن أمثلة هذا النوع أعني أن يكون الإجمال بسبب الإبهام في اسم جنس مفردًا، قوله تعالى: (ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين) (الزمر/71) قال ـ رحمه الله ـ: " فقد بينها بقوله: (ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) (السجدة/13) ونحوها من الآيات " (أضواء البيان1/8) .
ثانيًا: تفسير القرآن بالسنَّة:
أما تفسير القرآن بالسنّة ومن أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم فقد أورد ـ رحمه الله ـ عددًا كثيرًا منها وهذه بعضها:
فمن ذلك: تفسيره لقوله تعالى: (غير المغضوب عليهم ولا الضالين) (الفاتحة/7) ، قال: " قال جماهير من علماء التفسير " المغضوب عليهم " اليهود، " الضالين " النصارى، وقد جاء الخبر بذلك عن رسول الله صلى عليه وسلم من حديث عدي بن حاتم ـ رضي الله عنه ـ " (أضواء البيان1/37) .
وقال في تفسير قوله تعالى: (ثلاثة قروء) (البقرة/228) ، وأما الذين قالوا الأطهار فاحتجوا بقوله تعالى: (فطلقوهنَّ لعدتهنَّ) (الطلاق/1) قالوا عدتهنَّ المأمور بطلاقهنَّ لها الطهر لا الحيض كما هو صريح الآية.
ويزيده إيضاحًا قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر المتفق عليه: [فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرًا قبل أن يمسها فتلك العدة كما أمره الله] (البخاري 6/67، مسلم2/1093) .
قالوا أن النبي صلى الله عليه وسلم صرح في هذا الحديث المتفق عليه بأن الطهر هو العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء، مبينًا أن ذلك هو معنى قوله تعالى: (فطلقوهنَّ لعدتهنَّ) وهو نص من كتاب الله وسنّة نبيه في محل النزاع.
قال مقيده عفا الله عنه ـ الذي يظهر لي أن دليل هؤلاء هذا فصل في محل النزاع، لأن مدار الخلاف هل القروء الحيضات أو الأطهار؟ وهذه الآية، وهذا الحديث، دلا على أنها الأطهار.
ولا يوجد في كتاب الله، ولا سنّة نبيه صلى الله عليه وسلم شيء يقاوم هذا الدليل، لا من جهة الصحة، ولا من جهة الصراحة في النزاع، لأنه حديث متفق عليه مذكور في معرض بيان معنى آية من كتاب الله تعالى " (أضواء البيان1/130) .
ومنها ما هو بيان أحكام زائدة على ما جاء في القرآن ومنها ما هو بيان للناسخ والمنسوخ، ومنها ما هو تأكيد لما جاء في القرآن، وغير ذلك.
ثالثًا: تفسير القرآن بأقوال الصحابة:
والمؤلف ـ رحمه الله ـ كثيرًا ما يستشهد بالتفسير الصحيح لصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكثيرًا ما يذكر لتفاسيرهم شواهد من آيات القرآن الكريم أو من سنّة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ففي تفسير قوله تعالى: (وضرب الله مثلاً قريةً كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدًا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون) (النحل/112) .
قال ـ رحمه الله ـ وقوله: (فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون) وقع نظيره قطعًا لأهل مكة لما لجّوا في الكفر والعناد ودعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: " اللهم اشدد وطأتك على مضر، واجعلها عليهم سنين كسنين يوسف " (البخاري كتاب التفسير 6/39، مسلم كتاب صفات النافقين 4/2157) .
فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء حتى أكلوا الجيف والعلهز " وهو وبر البعير يخلط بدمه إذا نحروه " وأصابهم الخوف الشديد بعد الأمن، وذلك الخوف من جيوش رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزواته وبعوثه وسراياه، وهذا الجوع والخوف أشار لهما القرآن على بعض التفسيرات فقد فسر ابن مسعود آية " الدخان " بما يدل على ذلك ".
ثم ذكر ـ رحمه الله ـ بعض الروايات عن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ وعقب عليها قائلاً: " وفي تفسير ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ لهذه الآية الكريمة ـ ما يدل دلالة واضحة على أن ما أذيقت هذه القرية المذكورة في " سورة النحل " من لباس الجوع أذيقه أهل مكة حتى أكلوا العظام وصار الرجل منهم يتخيل له مثل الدخان من شدة الجوع، وهذا التفسير من ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ له حكم الرفع لما تقرر في علم الحديث: من أن تفسير الصحابي المتعلق بسبب النزول له حكم الرفع، كما أشار له صاحب طلعة الأنوار بقوله:
تفسير صاحب له تعلق بالسبب الرفع له تحقق
وكما هو معروف عند أهل العلم " (أضواء البيان1/340ـ342) .
المراجع:
1 - ترجمة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: " عبد الرحمن السديس " ط دار الهجرة
2 - أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: الشيخ: محمد الأمين الشنقيطي / ط دار الكتب العلمية.
3 - اتجاهات التفسير في القرن الرابع عشر: " د. فهد بن عبد الرحمن الرومي ".