اسم الکتاب : المعجم الجامع في تراجم المعاصرين المؤلف : مجموعة من المؤلفين الجزء : 1 صفحة : 175
ترجمة فضيلة الشيخ المُحَدِّث عبد القادر الأرناؤوط حفظه الله
الشيخ عبد القادر -رحمه الله ونفعنا الله بعلمه- أحد العلماء العاملين الغيورين على سنة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، الذين نذروا أوقاتهم في تمييز صحيح السنن والآثار من ضعيفها، وفي التفقه في معانيها وفي نشرها وتعليمها والعمل بما فيها. الشيخ عبد القادر عالم وداعية سلفي صالح -ولا نزكي على الله أحداً- لكن قَلَّ من الناس من يعرف أخباره أو شيئاً منها. ومعرفة حياة الصالحين وطرائقهم في العلم والعمل، سبيلٌ ينبغي الاعتناء به، حتى يَتَبَصَّرَ المؤمن وينشط وتعلو همته ليقتفي آثارهم، وليعلَمَ قدرَ هؤلاء الأخيار. بادئَ ذي بدء، أعرُجُ على مختصرٍ عن حياة شيخنا.
مقدمة
بقلم الشيخ عبد القادر الأرناؤوط
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيّئات أعمالنا. من يهده الله فلا مُضِلّ له، ومن يُضلِل فلا هادِيَ له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمداً عبد ورسوله.
فإني أنا العبد الفقير إلى الله تعالى العليّ القدير: "عبد القادر الأرناؤوط" طالب علم، مّنَّ الله تعالى عليَّ بأن وفقني لطلب العلم منذ هجرة والدي -رحمه الله- إلى دمشق الشام. فقرأت القرآن وجوّدته وأنا صغير. وممّا مَنَّ الله عليَّ به أن حُبِّب إليَّ قراءة حديث رسول الله r، وحفظه، في أوّل شبابي ومقتبل عمري. ومضيت على ذلك سنوات عديدة. ولما طُلِب مني أن أحقّق كتاب "جامع الأصول في أحاديث الرسول r" -لابن الأثير الجزري رحمه الله- كنت مضطراً للرجوع إلى كتب السنة -كالكتب الستة، والمسانيد، والجوامع، والأجزاء، وغيرها- لتخريج الأحاديث التي جمعها ابن الكثير -رحمه الله-، وإلى كتب التفسير، وشروح الحديث، وكتب اللغة. وما زلت -ولله الحمد- حتى الآن أرجع إلى دواوين السنة النبوية. وخير الكلام: كلام الله تعالى. وخير الهّدْيِ: هدي رسولنا محمد - صلى الله عليه وسلم -.
1 - سيرته الذاتية
اسمه، نسبه، شهرته:
إن الاسم المشهور للشيخ في العالم الإسلامي هو «عبد القادر الأرناؤوط» إلا أن اسمه في الهوية الشخصية هو «قَدْري» . ونسبه هو: «قَدْري بن صَوْقَل بن عَبْدُول بن سِنَان ... » . وأما شهرته بالأرناؤوط فهي عبارة عن لقب أطلقه الأتراك على كل ألباني.
مولده ونشأته:
ولد شيخنا العلامة الحافظ، المحدث الفقيه المتبصر، الحكيم الورع، والداعية النبيل -نحسبه كذلك ولا نزكيه على ربنا- بقرية «فريلا VRELA» في «إقليم كوسوفا Kosovo» من بلاد الأرنؤوط في ما كان يعرف بيوغوسلافيا، سنة (1347هـ - 1928م) . الألبانيون يسمون هذا الإقليم: كوسوفا، والصرب يقولون: كوسوفو. والأرنؤوط -كما قال الشيخ الألباني رحمه الله- جِنسٌ يندَرِجُ تحته شعوبٌ كثيرة من الألبان واليوغسلاف وغيرهم. والألباني قديماً كان يكتب على غلاف كتبه: تأليف محمد ناصر الدين الأرنؤوطي، وعليها خطه بالإهداء إلى المكتبة الظاهرية.
وقد هاجر شيخنا سنة (1353هـ _ 1932م) إلى دمشق بصحبة والده -رحمه الله- وبقية عائلته -وكان عمره آنذاك ثلاث سنوات- من جراء اضطهاد المحتلين الصرب -أذلهم الله- للمسلمين الألبان. وكان المسلمون آنذاك أقلِّية مضطهدين من قبل الصِّرب يمارسون عليهم الضغوط بشتى أنواعها، مما دعا السكان المسلمين للفرار بدينهم -من وطأة هذا الحكم الشيوعي الظالم- إلى بلاد المسلمين. وعندما كان الشيخ صغيراً حرص والده على تعليمه اللغة الألبانية، فأتقنها مما ساعده هذا في رحلاته إلى البلدان التي زارها ولا سيما بلده الأصلي إقليم كوسوفا في يوغسلافيا متخطياً بذلك حاجز اللغة.
فترعرع الشيخ في دمشق الشام، وتلقى تعليمه أول الأمر في مدرسة «الإسعاف الخيري» بدمشق بعد دراسة سنتين في مدرسة «الأدب الإسلامي» بدمشق. وبقي في مدرسة «الإسعاف الخيري» يطلب العلم حتى أنهى مرحلة الخامس الابتدائي سنة (1363هـ _ 1942م) وكان الصف الخامس آنذاك هو نهاية المرحلة الابتدائية. وبعد ذلك ترك العلم لغرض العمل لحاجته للمال فعمل «ساعاتياً» في تصليح الساعات في محلة «المسكية» بدمشق، وكان يعمل في النهار ويدرس القرآن والفقه مساءاً. وكان عمله عند رجل أزهري يدعى الشيخ «سعيد الأحمر التلي» -رحمه الله تعالى- وكان عالماً يعلمِّه علوم الدين واللغة. وعندما لاحظ نبوغه وحفظه للقرآن والحديث النبوي الشريف، وجَّهه وأرشده لطلب العلم حيث أخذ بيده للمسجد الأموي بدمشق، وساعده بالمال وقال له: «يا بني، أنت لا تصلح إلا للعلم» . وقام بتسليمه للشيخ عبد الرزاق الحلبي -حفظه الله- وانضم إلى حلقة من حلقاته العلمية، وطلب منه تعليمه علوم الشرع واللغة والأدب.
أسرته وأولاده:
نشأ الشيخ في عائلة فاضلة حيث تربى على الفضيلة والعفّة والأدب مع والدين كريمين، إلا أن والدته -واسمها «شانه» - وافاها الأجل وهو مازال صغيراً. وقد رزقه الله أحد عشر ولداً: من البنين ثمانية ذكور، وثلاث إناث. وهم جميعاً من زوجته الثانية «خديجة» التي مازالت تشاركه حياته الزوجية خديجة -حفظهما الله-، سوى الأول -وهو الابن الأكبر واسمه «محمود» - فمن زوجته المتوفاة واسمها «صبرية» -رحمها الله-. ومحمود معروف بنشره لعدة كتب منها: "شذرات الذهب" الذي أشرف على تحقيقه الشيخ عبد القادر.
منزله:
سكنت عائلة الشيخ في بداية هجرتها من يوغسلافيا في منطقة «ركن الدين» بدمشق، فترة من الزمن تقارب السنة. ثم انتقلت إلى منطقة «الديوانية البرّانية» مع عائلات أخرى يوغسلافية من إقليم كوسوفا، فسميت تلك المنطقة فيما بعد بحارة «الأرناؤوط» . وهو الآن يسكن مع أسرته في حي الميدان بدمشق. وعنوانه هو: الميدان، موقف الغواص، بناء الدعبول (قريب جداً من مدخل المُحلّق) . ومكتبه في الطابق الأرضي. ويتواجد في مكتبه عادة بين الساعة الخامسة مساءً إلى الساعة السابعة مساءً بتوقيت دمشق (مساوٍ لتوقيت القاهرة) ، حيث يجتمع إليه الناس وطلبة العلم من كل صوب ليسألوه عن أمور دينهم.
صفاته:
كان شيخنا أبيض اللون مشربا بحمرة، أزرق العينين، أشقر، إلى الطول أقرب، قوي البنية، ذلك لأنه كان رياضيا بارعا في شبابه، وحفظ الله له صحته عموما إلى ليلة وفاته. إلا أن كسرا أصاب قدمه وأثّر على ركبته، مما جعله يجري عملية استبدال لمفصلي الركبة بعد سنوات من المعاناة، وأصيب آخر عمره بلقوة خفيفة في وجهه.
وكان شيخنا مرحا صاحب نكتة ودعابة، ومن أهم صفاته أنه لا يعرف التكبر ولا يرى لنفسه حظا، فقد كان شديد التواضع بالفطرة وزاده العلم تواضعا، ويكتب دائما في توقيعاته وعند اسمه: "العبد الفقير إلى الله العلي القدير، عبد القادر الأرناؤوط، خادم علم الحديث في دمشق"، وعندي بعض كتاباته الخطية يقول عن نفسه إنه طالب علم الحديث، وفي أخرى أنه ليس أهلا لأن يجيز، وهو آية في ترك التكلف، ومن سمع كلامه عرف فيه الإخلاص والصدق. وهو مع ذلك قوي وجريء في بيان الحق والصدع به، أحسبه كان لا يخاف في الله لومة لائم، وله مواقف مشهودة في صلابته في السنة وتصديه للبدع والمنكرات وأهلها، وقصصه في هذا كثيرة.
وشيخنا كريم اليد، واجتماعي، كان يحضر دعوات الناس ومناسباتهم، إلا أن ميزته على كثير من المشايخ غيره أنه لا يكاد يضيع دقيقة من الوقت دون إرشاد ونصح، فما أن يجلس حتى يقول بصوته الجهوري الفصيح: روى فلان وفلان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله r، ثم يسرد شيخنا جملة من الأحاديث الجامعة المناسبة للحال، كل ذلك من حفظه المتقن، يرويها حرفيا لا بالمعنى، وبفصاحة دون تردد أو تلعثم.
وفاته:
توفي شيخنا في دمشق فجر الجمعة 13شوال 1415، الموافق لـ26 تشرين الثاني 2004. وبلغنا عن محمد ابن شيخنا عبد القادر، قال: "كان شيخنا أمس الخميس في كامل عافيته وصحته، ثم نام، ولما أرادت والدتي إيقاظه للفجر لم يرد عليها، ثم حرّكته فوجدته ميتا وجبينه متعرق، ولم يشعر به حتى أهله معه، فإنا لله وإنا إليه راجعون". وصُلّي على شيخنا بعد صلاة الجمعة في جامع زين العابدين بحي الميدان، أي في مسجد شيخ قراء الشام الشيخ كريّم راجح حفظه الله. وامتلأ الجامع مبكرا، وكذا الشوارع المحيطة به رغم البرد. وأمّ المصلين ابنه الأستاذ محمود الأرنؤوط. وكانت جنازة لم تشهد مثلها دمشق منذ فترة طويلة. ودفن بمقبرة الحقلة.
ونحن نرجو حسن الخاتمة لشيخنا، حيث مات بعد صوم رمضان، وبعرق الجبين، ويوم الجمعة، ومات ثابتا عزيزا شامخا رغم الأذى والمضايقات التي حصلت له في الفترة القريبة جدا.
نسأل الله أن يتغمد الفقيد برحمته، وأن يخلف على الأمة من أمثاله، وأن يخفف مصاب أهله وتلامذته وأحبابه، إن جواد كريم.
2 - سيرته العلمية
شخصيته العلمية وموسوعيته:
إن سبب شهرة الشيخ هو اهتمامه بجانب هام ميّز شخصيته وهو اختصاصه بعلم الحديث النبوي الشريف الذي نالته هذه الشخصية، فلولا العلم لما كانت له هذه المكانة التي ارتقاها على صعيد العالم الإسلامي.
فالعلم أساس حياة الإنسان، وعليه تبنى شخصيته، ولا أظن أن هناك من يخالف هذه الحقيقة. ولا أجد حاجة هنا للتدليل على قولي، فكتاب الله تعالى وأحاديث نبينا صلوات الله وسلامه عليه فيها دروس وإرشادات كثيرة في هذا المجال. والشيخ -حفظه الله- بالإضافة إلى موسوعيته العلمية الفذة، وتبحره في علم الحديث، فهو بجيد اللغة الألبانية، بشكل ممتاز، ويلم بشيء من اللغة الفرنسية، وهذا مما ساعده كثيراً في هدفه السامي في نشر كلمة التوحيد والدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
ولا نجد في شخصيته الغرور ولا الكبر، بل يتواضع لكل الناس ولا يخدعه مظهر من مظاهر الدنيا. ولا سيما أن النفس لها حظوظ في مثل هذه الحالات. فهو عارف بحقيقة عبوديته لله عز وجل. ولذلك اتصف بالصفات النبيلة، ولا يرضى بالألقاب، فأعز لقب يحرص عليه هو «العبد الفقير» ويأبى ما سواه. وقد حَبَّبَ الله إليه دراسة الحديث النبوي الشريف منذ الصغر فعكف عليه، يقول الشيخ: «كنت في فترة الاستراحة بين الحصص المدرسية أحفظ خمسة أحاديث. فكنت متمتعاً بذاكرة طيبة وقدرة على الحفظ كبيرة بحمد الله تعالى وعونه» .
شيوخه وتلاميذه:
لم يدرس الشيخ دراسة أكاديمية، فقد تلقى علومه على يد علماء عصره. وكان والده عاميا محبا للعلم، فدفعه مبكرا لحلقات المشايخ. ودرس أول نشأته مبادئ الفنون على الشيخ صبحي العطار، وسليمان غاوجي الألباني (والد الشيخ وهبي) في حارة الأرناؤوط بدمشق، حيث أخذ منه شيئاً من الفقه وعلمي الصرف والنحو. وكذلك درس على بعض المشايخ الأرنؤوطيين مثل الشيخ ملا باختياري (المشهور بحمدي الأرنؤوط) والشيخ نوح نجاتي الألباني -والد العلامة الألباني-.
ثم اشتغل ساعاتياً في محل الشيخ سعيد الأحمر رحمه الله بحي العمارة، وهو من أهل العلم الأزهريين، فأُعجب بذكاء شيخنا، فقال لأبيه: ابنك هذا ينبغي أن يكون طالب علم. وعلى أثر ذلك انضم شيخُنا إلى حلقة الشيخ محمد صالح الفرفور في الجامع الأموي. وتلقى عنه من علوم العربية والفقه الحنفي، والتفسير، والمعاني والبيان والبديع، حيث لازمه فترة من الزمن تقارب العشر سنوات. فقرأ عليه خلالها: متن الطحطاوي ونور الإيضاح ومراقي الفلاح وحاشية ابن عابدين وغيرها، كذلك قرأ عليه في فنون العربية والتفسير. وكان زملاؤه آنذاك المشايخ: عبد الرزاق الحلبي، ورمزي البزم، وأديب الكلاس، وشعيب الأرناؤوط. ونظرا لتميز شيخنا في تجويد القرآن الكريم فقد صار يقرئ زملاءه المذكورون ويعلمهم التجويد.
وقرأ القرآن وجوَّده على الشيخ المقرئ الفقيه «صبحي العطار» -رحمه الله- (وهو مغربي الأصل) . ثم أعاد قراءة القرآن مرة أخرى بتجويده من أوله إلى آخره على الشيخ «محمود فايز الديرعطاني» المقرئ، تلميذ شيخ القراء آنذاك «محمود الحلواني» الكبير، بقراءة حفص عن عاصم. وقد زامله في القراءة عليه: بكري الطرابيشي، وأبو الحسن الكردي، ومحمد سكر، وكريّم راجح، وكلهم اليوم من مشايخ قراء الشام المشاهير. وقولنا الشيخ «الحلواني الكبير» احتراز عن الحلواني الصغير، وهو ابنه الدكتور محمد، وهو ممن قرأ أيضا على والده. والحلواني الكبير هو محمد سليم بن أحمد الحلواني الحسيني الشافعي مترجم في "تاريخ علماء دمشق" (2|603) .
وشيخنا جميل الصوت بالقراءة، في صوته (اليوم) بحة، قريب منه صوت الألباني بالقراءة، وللناس في جميل الصوت أذواق. وما عهِدناه إلا محافظاً على الصلوات الخمس، ترى على صلاته أثراً مما يُذكَرُ عن صالحي هذه الأمة من السلف الطيبين ومن تبعهم بإحسان. وقد قال عنه الشيخ محمود فايز: «هذا الغلام قراءته سليقية» . وكان الشيخ الديرعطاني يحب قراءة شيخنا وسلامة مخارج الحروف عنده، ويقول له: أنت قراءتك سليقية، وحاول أن يستمر ويجمع عليه القراءات، إلا أن شيخنا آثر الانصراف إلى علم الحديث. وللتنبيه فقد رأيت في كلام بعض من ترجم شيخَنا أنه درس عند عبد الرزاق الحلبي، وهذا غير صحيح، بل جمعتهما الزمالة أول الطلب.
ويُعتبر الشيخ الأزهري «سعيد الأحمر التلي» -رحمه الله تعالى- معلِّمه في مهنة الساعات هو أوّل من وجهه إلى طريق طلب العلم ودلّه عليه، فكان له الفضل الأكبر في تشجيعه لطلب العلم الشرعي. ومنذ ذلك الحين والشيخ منكَبٌّ على تعلم العلم ودراسته. وسعيد الأحمر مترجم في "تاريخ علماء دمشق" (2|961) .
يقول شيخنا عبد القادر: «وأراد مني والدي -رحمه الله- أن أتعلم مهنة الساعات عند الساعاتي الشيخ سعيد الأحمر -رحمه الله-، وكان قد درس في الأزهر. فرضي الشيخ سعيد الأحمر أن أشتغل عنده في مهنة الساعات. ولكونه درس في الأزهر وتخرج فيه، أراد أن يمتحنني. فطلب مني أن أقرأ شيئاً من القرآن، فقرأت عليه بعض الآيات، فأعجبته قراءتي. فقال لي: "على من قرأت القرآن ودرست التجويد؟ ". فقلت له: "على الشيخ صبحي العطار -رحمه الله- ثم الشيخ محمود فايز الديرعطاني تلميذ الشيخ محمد الحلواني الكبير -رحمه الله-". وسألني: "هل درست شيئاً من الصرف والتجويد على المشايخ؟ ". فقلت له: "نعم، درست شيئاً من الصرف والنحو على الشيخ سليمان غاوجي الألباني -رحمه الله-". فقال لي الشيخ: "نحن الآن في شهر رمضان، من الذي يجب عليه الصيام في رمضان، ومن لا يجب عليه الصيام؟ ". وكنت قد حفظت بيتين من الشعر في الفقه الحنفي من الشيخ صبحي العطار وأنا صغير، فذكرتهما للشيخ الساعاتي:
وعوارض الصوم التي قد يُغتفر * للمرء فيها الفطر تسع تُستطر
حَبَل وإرضاع وإكراه سفر * مرض جهاد جوعه عطش كِبَر
فطلب مني أن أذكر معناهما، فذكرته له. ففرح كثيراً وقال لي: "أنت ينبغي أن تكون طالب علم"، فشجعني على ذلك. وأخذت أدرس على المشايخ. وكان من جملة المشايخ الذين درست عليهم الشيخ محمد صالح الفرفور في دمشق. وسمعت على عدة مشايخ في جامع بني أمية الكبير. وأتقنت مهنة الساعات عند الشيخ سعيد الأحمر. وكنت أعمل في مهنة الساعات وأدرس على المشايخ في الصباح بعد صلاة الفجر، وبعد المغرب والعشاء. ثم طلب مني أن أُدرِّس في المدرسة الابتدائية التي تخرجت فيها، ثم درّست في المدارس الإعدادية والثانوية القرآن وتجويده والفقه". انتهى كلام الشيخ عن بعض مشايخه.
وأعلى من هؤلاء كلهم أخذه عن علامة الشام وسلفيها الشيخ بهجة البيطار رحمه الله. فكانت له به صلات واجتماعات، وكان يقول له: «أنت يا بني، مشربك من مشربنا، فأرى أن تدرس مكاني» . وهذا الذي حصل، فقد استمر الشيخ يدرس كتب العلم في جامع الدقاق وجامع الشربجي (بالميدان) بعد وفاة العلامة البيطار، وكان صورة من شيخه البيطار. وقد قال مرةً مؤذن مسجد الدقاق -وهو ممن كان أدرك الشيخ بهجة البيطار- لأحد أصحابنا (لما سأله عن الشيخ بهجة) : «من أراد أن ينظر إلى الشيخ بهجة، فلينظر إلى الشيخ عبد القادر. فالشيخ أشبه الناس بسمته!» . وهذا -بإذن الله- صِدقٌ وحق. فإن كثيراً من أهل الشام يحكي عن الشيخ بهجة من الخُلُقِ والهدي ما يشبه ما نراه في العلامة عبد القادر الأرنؤوط حفظه الله. وللعلم فإن العلامة البيطار على الرغم من علمه وفضله، فإن شهرته كانت في العالم الإسلامي أكبر من شهرته في سوريا، لأنه لم يركز على التدريس.
هذا، ولقد استفاد شيخنا باجتماعه بخيرة علماء تلك الفترة، من أمثال علي الطنطاوي ومحمد أمين المصري وابن مانع والرفاعي وعبد الرحمن الباني ومحمد بن لطفي الصباغ وغيرهم ممن كان يجالسهم ويجتمع بهم -رحم الله الأموات منهم وحفظ الأحياء-. كما تأثر بأخلاق العالم المربي الأستاذ عبد الرحمن الباني حفظه الله، وكان يقول عنه: إنه يمثل أخلاق السلف.
وكان شيخنا صاحباً للألباني محبا له -كما سيأتي تفصيله- وللشيخ زهير الشاويش وللشيخ شُعَيْب الأرناؤوط. وقد صاحب الشيخ جمعاً من أهل العلم ممن يكبرونه قليلاً أو يصغرونه قليلاً، فاستفاد من صحبتهم. وهكذا طلبة العلم، ينبغي أن يختاروا ثُلَّةً من الأصحاب الذين يتذاكر معهم العلم، ويستخرج بجودة قرائحهم فرائد العلم ودقائقه. فانظر -رعاك الله- أحمد بن حنبل من كان أصحابه وأقرانه: ابن معين وابن المديني وإسحاق بن راهويه والحميدي وغيرهم، يذاكر العلم مع تلامذته البخاري وأبي زُرعة والدّارميّ وابن وارَة وغيرهم، كيف يكون ذهن وقريحة من هؤلاء أصحابه وجلساؤه؟
أما تلاميذه فإن الشيخ -حفظه الله- يعتبر هؤلاء الذين درسهم طوال هذه السنين هم إخوة له يتدارس معهم العلوم الشرعية.
رحلاته العلمية:
رحل الشيخ إلى بلاد عديدة، ولم يكن يمنعه بُعد المسافة ومشاق السفر عن هدفه السامي في سبيل الدعوة إلى الله تعالى القائل في كتابه: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} (33) سورة فصلت. فكانت معظم رحلاته العلمية منحصرة إلى مسقط رأسه «إقليم كوسوفا في يوغسلافيا» وما جاورها من البلاد المتعطشة للإسلام كألبانيا. فآثاره وجهوده لا تنكر، وفضله لا ينسى في تلك البلاد. وسافر مرات عديدة إلى الشارقة والرياض ومكة والمدينة وغيرها لإلقاء الدروس والالتقاء بالعلماء وطلبة العلم. كما أن الشيخ يتوجه باستمرار إلى بعض البلاد العربية والإسلامية للمشاركة في المؤتمرات وإلقاء المحاضرات والندوات العليمة المفيدة.
سلفيته:
إن من أهم الأسباب التي أدت إلى بعض الخلافات مع علماء عصره هو أن الشيخ -حفظه الله- لا يتبع مذهباً من المذاهب يقلده تقليداً أعمى، وإنما يتبع المذهب الأقوى اعتماداً على الدليل الذي استند إليه صاحب القول أيَّاً كان مذهبه. ويقول الشيخ في مسألة التزام الإنسان مذهباً معيناً: «في المسألة تفصيل: فبالنسبة للعامي لا مذهب له ومذهبه هو مذهب مفتيه، فالتزامه بمذهب يكون أمراً طبيعياً. وطالب العلم الذي في أوّل أمره لا يستطيع أن يمِّيز بين الأقوال الصحيحة والضعيفة، فهو يعمل ضمن ما يسمع من شيخه. أمّا بالنسبة لطالب العلم المتمكّن الذي درس الفقه المقارن، وعرف دليل كل إمام من الأئمة، فإنه عندئذٍ يستطيع أن يميز بين القول الصحيح والضعيف. وأرى أنه في هذه الحالة لا يحق له أن يكون مقلِّداً» .
ومن هنا يتضح لنا بأن الشيخ -حفظه الله- لا يلتزم مذهباً معيناً، وإنما يعمل بالكتاب والسنة على منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم، وبما قاله العلماء الجهابذة النقّاد. فهذه طريقته في الفقه: يأخذ بما دل الدليل عليه، غير مقلِّدٍ أحداً من العلماء، إذا اتضح له أن الحق لم يكن حليفه. فهو على هذا من فقهاء المحدِّثين. والشيخ لا يرضى بالتقليد دون معرفة الدليل، حيث يتبع قاعدة الدليل الأقوى معتمداً على أمهات الكتب الفقهية (كالمغني لابن قدامة، والمجموع للنووي، وفتح القدير للكمال بن الهمام وغيرها) . فينظر في دليل كل واحد ويأخذ الأقوى منها اعتماداً على تخريج الأحاديث من الكتب المعتمدة كأمثال كتاب نصب الراية للزيلعي، والتلخيص الحبير لابن حجر وغيرها من الكتب. وقد قام بتخريج كل الأحاديث النبوية في السنن الأربعة والموطأ وأرفق أحكامه عليها في كتاب "جامع الأصول" المطبوع بتحقيقه.
شيخنا -حفظه الله- من المهتمين جداً بتراث شيخي الإسلام ابن تيمية وابن القيم. وهو معروفٌ لدى فقهاء الشام بأنه يُفتي بما كان عليه شيخ الإسلام في مسائل الطلاق عدا مسألة طلاق الحائض (فلِلْشيخ فيها رأي عملي آخر، لأن فيها نظراً كبيراً يوقف عنده) . ويَذكر الشيخ عن نفسه أن من أوَّلَ ما أثَّر في نفسه في مبتدأ الطلب: كتاب "الوابل الطيب" لابن القيم. وشيخنا سَلَفِيٌّ صَرْفٌ، يحب السلفيّين ويجتمعون عنده. ولا شك أنه اليوم -بعد وفاة الشيخ ناصر- شيخ سلفيي الشام ومُحَدِّثَها بلا مُنازع. ويفرق عن الشيخ الألباني في طريقة الدعوة والأسلوب المنتهج فيها. فقد قال هذا من يعرف الشيخين: إن الله جعل للشيخ عبد القادر القبول في دعوته بالشام، ما لم يجعل للألباني رحمه الله. وهذا لأن الشيخ حفظه الله كان ألْيَنَ وأسهَلَ مع المُخالف ترغيباً له في الحق والهدى. وهذا ليس مطرداً مع المعاندين من أهل البدع.
وأستطيع أن أقول -والعلم عند الله- إن الشَّبَهَ بين ابن تيمية وشيخنا لكبيرٌ جداً. خاصةً في باب الدعوة وسبيلها. فإنك تندهش من اجتماع العامة على الشيخ عبد القادر، تماماً كما يذكر أصحاب الشيخ عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله. ووَالله ما سمعت بصفةٍ ذكروها عن شيخ الإسلام ابن تيمية، إلا وقد وجدتها عند شيخنا عبد القادر.
لكن الشيخ عبد القادر عندما يسأل هل أنت سلفي؟ يقول -حفظه الله-: «الحقيقة في أن يلتزم الإنسان منهج السلف شيء، وأن يدَّعي أنه سلفي شيء آخر. أنا لا أقول عن نفسي: "إني سلفي"، بل لا أملك ذلك. وإنما أحاول قدر ما أستطيع أن أعمل بمنهج السلف وأقوالهم. وإذا ما سألتَ عن مذهبي أقول: أنا مسلمٌ أعود إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله r وأقوال الأئمة بأدلتها. وأعمل بما هو الأقوى والأرجح الذي رَجّحهُ العلماء على منهج السلف الصالح» . أقول: هذا حال من هو سلفيٌّ حقيقةً. فكيف حال من يدعيها وهي تَفِرُّ منه؟ نسأل الله السلامة.
والشيخ عبد القادر حفظه الله من المنكرين للبدع والشركيات، شديد الإنكار لها. كما أنه ينكر ما يفعله بعض المبتدعة من التبرك بالمشايخ والتوسل وغير هذا. وهو يولي الأمر عناية كبيرة. حتى أن أحد الإخوة سأله مرّة -وقد سافر إلى قطر-: «هل لقيت فلان بن فلان؟» . فقال الشيخ: «نعم، وما أعجبني» . ثم سرد قصته معه، وحاصلها أن الشخص المسئول عنه احتضن الشيخ يقبّل يده ويتبرّك بها، فأنكر عليه الشيخ ذلك. فقال المتبرك: «عندي فيها أدلة، ووقفت فيها على آثار» وشيء من هذا القبيل. فأنكر عليه الشيخ، ثم قال: «الأمة قطعت أشواطاً في سد مثل هذه المسالك المفضية إلى الغلو، وهذا يردنا إلى حيث بدأنا!» . فاللهم احفظ شيخنا عبد القادر ما أنصره للسنة وما أقمعه للبدعة. المنكر فيه من قبل الشيخ التمسح باليد قصد التبرك، وهذا الذي أنكره الشيخ. واحتج له المتبرك بأنه وقف على آثار في الباب تدل على مزعومه!
والملاحظ أن الشيخ يراعي كثيراً أحوال المستمعين إليه. فلا يدخل في تفصيلات مسائل الأسماء والصفات مع العوام. بل يكتفي بقوله لمن يسأله: منهجنا هو منهج الإمام مالك عندما قال عن صفة الإستواء: «الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة» . لأن الأصل في غالب العوام السلامة. وهم لا يفهمون تفلسفات الأشاعرة أصلاً حتى ندخل معهم في النقاشات التي يأتي بها المتكلمين الأشاعرة. أما مسائل التبرك والتوسل والشرك، فهذه ينبه الشيخ عليها العوام بما يفهمونه.
قصة طرده من مجلس الشيخ الفرفور وظهور سلفية شيخنا
لقد كان شيخنا عبد القادر تلميذا -كما أسلفنا- للشيخ صالح الفرفور، قرأ عليه -كعامة من كان يقرأ في معهد الفتح- من علوم العربية والمعاني والبيان والبديع والفقه والتفسير الكثير في مدة تقرب من عشر سنوات. وكان مما قرأه من كتب الفقه الحنفي: حاشية ابن عابدين، وحاشية الطحطاوي، ونور الإيضاح، ومراقي الفلاح، وغيرها.
وكان أثناء قراءته على الشيخ صالح في الحاشية لابن عابدين، تمرُّ بهم أحاديث، فيسأل الشيخ عبد القادر عنها صحة وضعفا ونحو ذلك، فكانت الكلمة المشهورة المتداولة على ألسنة الصوفية تخرج من فم الفرفور كالسهم: «لا تعترض فتنطرد» !
وفي إحدى المرات اشترى شيخنا كتاب "الوابل الصيب" لابن القيم من إحدى المزادات بدمشق، ولما لم يكن له مكتبة يومئذ. وكان الشيخ عبد الرزاق الحلبي متميزاً في ذلك، حيث كانت له مكتبة خاصة في جامع فتحي، أراد الشيخ أن يلحقه بمكتبته. فعلم بذلك رمزي البزم -وكان أكبر طلاب الفرفور سِنّاً- فقال بعد أن سمع بوضع شيخنا للكتاب بمكتبة الحلبي، بعد أن أنهى الفرفور درسه بالأموي: «عبد القادر، الليلة عندك محاكمة» !! هكذا مع إحداث ضجة في حلقة الدرس. وفعلا أشار إليه الفرفور وإلى الحلبي وإلى البزم أن قوموا إلى مكتبة الشيخ عبد الرزاق، وهنا جرت المحاكمة وهذا سياقها:
قال الفرفور للشيخ عبد القادر: لِمَ جئت بالكتاب؟ (يريد: الوابل الصيب) .
قال شيخنا: «لأني قرأت في مقدمته: في الذكر مئة فائدة، ثم سردها» .
فقال الفرفور: هل تعرف ابن القيم تلميذ من؟
قال شيخنا: «تلميذ ابن تيمية» .
قال الفرفور: نحن نقرأ لابن تيمية؟! قم وخذ صاحبك معك -يعني الشيخ شعيب-. ثم جرت أحداث، لها موضع آخر. وأُبعد الشيخ عن الحلقة على إثرها بتهمة الوهابية! وقاطعه زملاؤه تبعاً. وكان الشيخ وقتها لا يعلم شيئا عن الوهابية، ولكن هذه الحادثة، وتعلقه المبكر بالحديث، ولا سيما مدارسته وحفظه من صحيح مسلم، والتوجيهات اللطيفة من الشيخ المعمّر عبد الرحمن الباني حفظه الله، كانت هي الأسباب المباشرة لتحوله سلفيا، حتى نال الإمامة فيها، ووصلت سمعته إلى مختلف أنحاء العالم الإسلامي، ولا سيما في علم الحديث. ولعله لم يكن بعد الشيخ الألباني أكبر من شيخنا خدمة لعلم الحديث، حتى كان شيخنا ممن طُرح اسمه لترشيحه لجائزة الملك فيصل الأخيرة لخدمة الإسلام.
قصة منعه من الخطابة
قال شيخنا رحمه الله: المدة الأخيرة كنت في خطيبا في جامع اسمه الجامع المحمدي، وهذا عندما استلمته كان جديدا، فتردد عليّ كثير من الشباب، وكانوا يسمعون الخطب ويسألون، وكنت دائما عقب خطبة الجمعة أعمل أسئلة وأجوبة، فيأتي الشباب فيسألون ويُجابون على هذه الأسئلة، من هنا بدأ بعض الناس وبعض المشايخ يحرّكون عليّ: إن الشيخ وهابي، فيطلبونني ويسألون: ما هو الوهابي؟ فأقول: ليس هناك مذهب وهابي جديد، وإنما هناك رجل اسمه محمد بن عبد الوهاب من أهل نجد؛ ظهر في ذلك الوقت، وهذا توفي عام 1206هـ ولكنه كان يحارب البدع والخرافات وأشياء ويدعو الناس إلى الكتاب وإلى السنة، ومذهبه على مذهب الإمام أحمد رحمه الله.
بعد ذلك الناس اتهموني بالسلفية! فكنت أبيّن لهم أن السلف الصالح هم القرون الثلاثة المفضلة التي كانت لم تغير ولم تبدل، وإنما ساروا على النهج الصحيح! إلا أن بعض الناس وشى عليّ أن هذا الشيخ يتكلم أشياء وأشياء. حتى كانت آخر سنة من السنين التي كنت فيها خطيبا؛ كنت أتكلم في رأس السنة الميلادية، حيث بعض الشباب من المسلمين -ولا حول ولا قوة إلا بالله- كانوا يشاركون النصارى في عيدهم، ويشاركون النصارى في شرب الخمر ومشاكل النساء. فعند ذلك قلت خطبة يظهر أنها كانت قوية، وأنا أنادي الشباب المسلمين: إياكم وأن تشاركوا النصارى في أعيادهم وعاداتهم وتقاليدهم وفي شربهم الخمر ومشاكل النساء. فمن هنا قالوا: إن هذا يدعو إلى الطائفية، ولذلك منعوني من الخطبة.
موقفه من بعض مسائل عصره:
1- مسألة الطلاق الثلاث بمجلس واحد هل يقع واحدةً أم ثلاثاً؟
يقول الشيخ في فتواه لهذه المسألة:
«كما هو معروف أن الجمهور قالوا في أن الطلاق الثلاث في مجلس واحد يقع ثلاث تطليقات وينهي العلاقة الزوجية. وخالف في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام ابن القيم وهما من الأئمة الحنابلة. فقالا: يقع طلقة واحدة. والأصل في مخالفة الجمهور خطأ. ولكن إذا ثبت دليل، فلا مانع من الأخذ به. وهو الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم عن ابن عباس t أنه قال: "كان الطلاق على عهد رسول الله r وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر، طلاق الثلاث واحدة. فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمْرٍ قد كانت لهم فيه أناة. فلو أمضيناه عليهم! فأمضاه عليهم". فالحديث هنا صريحٌ في ذلك، وهو أنهم كانوا يعدُّون الثلاث بلفظ واحد طلقة واحدة على عهد رسول الله r. وما فعل عمر ذلك، إلا لأنه رأى أن من المصلحة والحكمة وقد كثر الطلاق أن يمضيه ثلاثاً، ففعله هذا تربية لرعيته. وورد غير هذا، والله أعلم» .
وفقهاء الشام مثل الشيخ الدكتور مصطفى البغا وغيره إذا جاءهم السائل في مسألة الطلاق بالثلاث، قالوا: إذهب إلى الشيخ عبد القادر، مع قولهم: إن الشيخ يفتي بهذا حسب قناعته، أخذاً بالتيسير على العامة. والشيخ عفيفُ اليد، لا يأخذ شيئاً من أحد. بل لقد غَضِبَ ذات مرّة غضباً شديداً من أحدهم، لمّا أخرج له مالاً مُقابل الفتوا وأصرّ في هذا، ظَنّاً من المسكين أن الشيخ كأشباه العلماء الذين عُرفوا بالشام بأخذهم الأموال الكثيرة لأجل إفتائهم بأن الطلاق الثلاث بلفظٍ واحدٍ أو في مجلسٍ واحدٍ: واحدة.
2- قوله في الطلاق المعلق على شرط:
يقول الشيخ -حفظه الله-: «إذا تحقّق الشرط، أُفتي بأن: فيه كفارة يمين. لأن هذا اللفظ في معنى اليمين، وهو لا ينوي الطلاق، وإنما ينوي المنع، وكان هذا شأنه، ففيه كفّارة، وإن كان الحالف بهذا اللفظ آثماً لحلفه بغير الله. والله أعلم» .
موقفه من التصوف والغلِّو في فهم التصوف:
حرص العلماء العاملون المخلصون لدين الله عز وجل، السائرون على منهج سلفنا الصالح رضوان الله عليهم أن يبقى المجتمع الإسلامي نقياً من كل شائبة، بعيداً عن الانحرافات في العقائد والمسالك، سليماً من الآفات والعيوب، وذلك بتمسكهم والتزامهم بكتاب الله وسنة رسوله r وعرض كل أمر مُسْتَجْدٍّ ومشكلة مستحدثة على ميزان الكتاب والسنة. لا يحيدون عنهما، يدركون بذلك مسئوليتهم أمام الله عز وجل على هذه الأمانة التي أُوكلت إليهم.
والتصوف قد أثرت فيه عوامل أجنبية ودخلت فيه البدع على مر الزمان. وقد رفض كثير من الصوفية الأوائل كل محاولة لإخراجه عن الشرع، وجعلوه مقيداً بالقرآن والسنة. وكان الجنيد يقول دائماً: «عِلمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة. فمن لم يحفظ القرآن ويكتب الحديث، ولم يتفقه، لا يُقتدى به» . وكان يقول: «عِلمُنا هذا متشبِّك بحديث رسول الله r» . وقال أبو سليمان الداراني: «إنه لتمر بقلبي النكتة من نُكَتِ القوم. فلا أقبلها إلا بشاهدي عدل، من الكتاب والسنة» . وقال النصرابادي: «أصل هذا المذهب: ملازمة الكتاب والسنة والاقتداء بالسلف. وترك الأهواء والبدع، وترك ما أحدثه الآخرون. والإقامة على ما سلكه الأولون» .
لذلك لا يرى شيخنا -حفظه الله- مانعاً أن يكون التصوف بمعنى الزهد في الدنيا والتقوى، والورع، ومراقبة الله عز وجل ضمن الحدود الشرعية. ولا يرضى عن تلك الأمور الخارجية عن الكتاب والسنة. كما أنه يحارب البدع، وهي كل ما أُلصق بالدين وهو ليس منه، ويرفض كل ما يدخل في العبادات أو الأقوال مما يخالف كتاب الله وسنة رسوله r.
ويمكن أن يتضح لنا موقفه من التصوف من حاله أكثر من لسان مقاله، فحياته ملؤها العبادة والطاعة، وأساسها العلم وغايتها مرضاة الله عز وجل. ويضيف قائلاً: «التصوف عندي هو ما كان بمعنى الرقائق التي تُليِّن القلوب وتهذِّب النفوس أمثال كتب ابن القيم -رحمه الله-. وإن أوّلَ مَنْ أثَّر في نفسي في أول طلب العلم هو الإمام ابن القيم عندما قرأت كتابه "الوابل الصيب من الكلم الطيب". وأما كتب الصوفية البعيدة عن منهج الحق، فلا أعمل بها وأنتقدها ... » .
هذا، وقد تكلم العلماء عن التصوف، وكتبوا فيه وردوا على باطله، وأشادوا بما فيه من الحق كما يتضح لنا ذلك في رسائل شيخ الإسلام ابن تيمية مثل: «العبودية» و «التحفة العراقية في الأعمال القلبية» و «رسالة الفقراء» ، وغيرها من الفتاوى والرسائل والبحوث التي ظهرت في مجلدين من «مجموع فتاويه» ، أحدهما تحت عنوان «السلوك» . وكذلك مؤلفات تلميذه المحقق ابن القيم في ذلك وهي كثيرة منها: طريق الهجرتين، وعدة الصابرين، وذخيرة الشاكرين، والداء والدواء، وأعظمها «مدرج السالكين شرح منازل السائرين» .
طريقته في التربية:
والشيخ -حفظه الله- عالم مربٍّ يُربّي الناس بصغار العلم قبل كباره. ولذلك أقبلت العامة -بدمشق وغيرها من المدن- عليه، حيث وَجَدَتْ عنده أُنْسَ المستوحش، وحنان المُربّي. فالشيخ معروفٌ بعُلوّ أخلاقه ونزاهة باطنه. لا تَسمَعهُ يذكر أحداً بسوءٍ أو يطعن فيه، إلا مبتدعاً مجاهراً مغالياً في بدعته. لا ترى ولا تسمع منه كلمةً نابيةً. فهو مجمعٌ للفضائل. وكان صورةً من شيخه العلامة محمد بهجة البيطار العالم السلفي التيمي رحمه الله. وقد تصدر شيخنا حلقة شيخه بعد وفاته، فصار يُدرّس في مسجده كتب العلم -ومنها التفسير- وذلك بعد صلاة الفجر من كل يوم.
وشيخنا -حفظه الله- جوادٌ كريمٌ لا تكاد ترى مثله وإن كان له نظائر -بحمد الله-، لا يردّ أحداً من المحتاجين. كم وكم رأيناه يعطي طلبة العلم وينفق عليهم، وبالأخص من الغرباء من الألبانيين وغيرهم. وهو كريمٌ يكرم جلساءه بما عنده من طيب الكلام قبل طيب الطعام، يظن الجالس عنده أنه سيد الجلسة، وأنه الأقرب إلى قلب الشيخ ونظره، هكذا يحس الجالس عنده، لا يترك أحداً إلا ويسأله عن اسمه وأين يسكن ويسترسل معه ويفخم من أمره إن كان من طلبة العلم تشجيعاً له. ومجالس الشيخ مجالس فيها من العلم والأدب والطرفة ما يذكر عن مجالس العلماء، هذا سائل فيجيبه الشيخ وهذا مناقش وهذا مسترشد. ويتخلل كل هذا طرفة من الشيخ، فهو بشر يضحك مما يضحك منه الناس. وهو رجل اجتماعي يحبُّ الناس. اجتمع فيه الكثير من خصال الخير -نحسبه كذلك ولا نزكيه على ربنا-.
تواضعه
والشيخ حفظه الله متواضع مكرم لتلاميذه، صاحب ودّ، أخبرني أحد أصحابنا الثقات قال: حدثني أحد إخواننا الدمشقيين الميدانيين -وهو من قدماء جلساء الشيخ- قال: «ما رأيت مثل شيخنا عبد القادر تواضعاً وأخلاقاً» . علما أن الرجل المحدِّث صاحب علم وعربية، ووالده من علماء الميدان، لكنه صاحب تصوف وقد ناهز التسعين سنة. قال صاحبنا: كيف؟ قال: «جئت إليه يوماً، فطرقت باب بيته الذي فيه المكتبة، فخرج إليّ أحد الطلبة فقال: "الشيخ يلقي درساً". فقلت: "لا تزعج الشيخ"، وأخبره إن انتهى الدرس أن فلانا قد جاءه. قال فما هي إلا خطوات مشيتها حتى سمعت صوت الشيخ خلفي، وهو ينادي: "أبا فلان". فجئت واعتذر الشيخ وقال: "ما علمنا". فقلت له: "شيخنا نحن أحق بالاعتذار، أخرجناك من حلقتك ودرسك"» . يقول: «والشيخ إن غِبْتَ عنه مدة، بلغتك الأخبار من قبله أنه يسأل عنك، ويقول كيف فلان؟ وأين هو؟» . يقول: «مع أنني صاحبت كثيراً من علماء الميدان مدة سنين، كنت أحمل كتب هذا وأسند الآخر، وأشياء مما يفعله التلميذ مع شيخه من قضاء حوائجه الدنيوية. فغبت أياماً عن حلقة بعضهم -مع أنني كنت ملازما لها- فما سأل عني ولا استفسر عن غيابي!» . يقول: «ومثل هذا فيهم كثير، فترى في الشيخ عبد القادر من اللين والتواضع وخفض الجناح لطلبته، ما ليس في الآخرين» .
ومن تواضع الشيخ: أنه إذا تكلم عن أحد طلابه يقول: أخونا فلان، أو: الشيخ فلان. وإذا تكلم عن نفسه أو كتب قال: طالب علم. وإذا أثنى عليه في وجهه مد يديه كهيئة المستغرب وقال: أستغفر الله.. أستغفر الله. ومن أخلاق الشيخ حفظه الله تواضعه للحق وسماعه ممن دونه. بل تجد طلبة العلم يناقشونه، وهو منصت دونما ضجر ولا اعتراض بالرد ولا غير ذلك، بل تجده يصغي لك بنفس كريمة طيّبة. ويتكلم معه بعض الطلاب بلا حواجز نفسية ويندفع في الحديث معهم بلا أدنى تحرج فضلا أن يتكلم بنبرة استعلاء وفوقية. بينما نرى بعض المشايخ المنتسبين للتصوف لا يسمح أن يُنادى إلا بالشيخ ومولانا ونحو ذلك، ويبدو التأثر عليه إن لم يعامل هكذا، وإذا عرّف بنفسه لا ينزل عن تلقيب نفسه بالشيخ، خصوصا إن كان دكتورا!
4- سيرته مع العلماء:
أقوال بعض علماء عصره فيه:
يقول الشيخ الدكتور وهبة الزحيلي (رئيس قسم الفقه الإسلامي ومذاهبه بكلية الشريعة بجامعة دمشق) عنه: «إني أعرف الأخ الشيخ عبد القادر منذ زمن بعيد، وقد صاحبته في سفرٍ إلى روسيا. وهو يتميز بسلامة لُغتِه، وقوة حافِظَته، وتقواه، ووَرَعِهِ، ومحبة الناس له، ومعرفته بأحكام الحلال والحرام، وتميزه بحفظ الأحاديث النبوية: بالرجوع إلى مصادرها وضبطها ومعرفة الأحكام المترتبة عليها. ويتميز أيضاً بأنه ذو خُلُقٍ كريم، وأدب رفيع، ويحترم أهل العلم، ويجد فيهم ويجدون فيه أُنْساً وفضلاً وحُباً للسُّنة النبوية والعناية بها. وقد شهد له عالم التأليف والتصنيف، تحقيقاتٍ كثيرةٍ دقيقةٍ وجيدةٍ وممتازةٍ مثل تحقيق كتاب "جامع الأصول" لابن الأثير الجزري، وغيرها من كتب الحديث. وكل ذلك إنما يُنبئ عن عِلمٍ غزيرٍ، وفَهمٍ دقيق، ومتابعة للروايات، وتعرف على رجال الحديث والسنة ... » .
ويقول الشيخ الدكتور مصطفى ديب البغا -حفظه الله- (أستاذ الحديث وعلومه في كلية الشريعة بجامعة دمشق) عنه: «الشيخ عبد القادر رجلٌ عالمٌ، طيبٌ، وورع، ومُحَقّقٌ، ومعتدلٌ في مواقفه. هذا ما أعرفه عنه. وفي مسألة فتواه عن الطلاق، فهو يقصد منها التيسير على الناس، وليس التساهل في الدين» .
ويقول فضيلة الأستاذ محمد رياض المالح -رحمه الله- عنه: «نشهد بأن الشيخ عبد القادر -حفظه الله، ونفع الأمة بعلمه- رجلٌ فاضلٌ عفيف اللسان. وهذا شأن العلماء. والجميع يشهد بنزاهته، وتواضعه، ومعاملته الحُسنة للآخرين. وإننا جميعاً نُقدِّرُ عمله العظيم في تحقيقه لكتاب "جامع الأصول" الذي لاقى قبولاً كبيراً بين الناس، وحَقَّقَ للجميع النفع والفائدة المرجُوّة» .
ويقول الشيخ عبد الرحمن الشاغوري -حفظه الله- عنه: «إن الشيخ عبد القادر رجلٌ مستقيمٌ، يحبنا ونحبه. وقد صحبته مُدَّةً طويلةً من الزمن خلال تدريسي في معهد العلوم الإسلامية عند الشيخ "عبد الله دك الباب" حيث كُنا على أشد المساعدة والتعاون والائتمان. ولم نر له أخطاءً طوال هذا المدة، فهو حافظٌ لسانه، وحافظٌ كيانه. وهذا ما أعرفه عنه. كما أنه يتَحَرّى دائماً في فتواه، فلا يعتمد على عقله، إنما يعتمد على الأحاديث الصحيحة. نسأل الله لنا وله التوفيق» .
وهو يثني على علم الألباني بالحديث. لكن الشيخ لا يوافقه على آرائه الاجتهادية في المسائل المعروفة التي أفتى فيها الشيخ الألباني بما أداه إليه اجتهاده كمسألة الذهب المحلق وغيرها. لكن هذا في العلم، أما القلبُ، فأشهد أن الشيخ يحبه ويجله، والشيخ ناصر يحبه ويجله. وإن كنت ترى الألباني يرد عليه، فهذه يا أخي طريقته المعروفة في عدم محاباة أحد في الحق كائناً من كان. والشيخ إذا زار الأردن زار الشيخ ناصر الألباني. والألباني رحمه الله كذلك يكرمه ويجلّه. بل إن أحد الثقات نقل لنا أن الشيخ الألباني سئل عمن تنصح بأخذ أحكامه على الأحاديث من بعدك فقال: الشيخ عبد القادر الأرنؤوط.
وأشهد لقد كان بعض المغرضين في مجلس الشيخ من سوء أدبهم: كلما تكلم الشيخ ذكروا الألباني وخلافه. كأنما يريدون غضبةً من الشيخ عبد القادر في حق الشيخ الألباني -كما هي طريقة من لم يتأدب بأدب العلم وما أكثرهم في مجالس العلماء وللأسف-، فقال الشيخ عبد القادر قولة شديدة فيها إلجام لهؤلاء -بعد أن عرف قصدهم-: «الشيخ ناصرٌ صاحبُنَا وصديقُنا ليس بيني وبينه شيء، ذاك شعيب الأرنؤوط» .
لأن كثيرا من عوام السلفيين يخلطون بين الشيخ شعيب الأرنؤوط وشيخنا عبد القادر، ويظنون أن بينهما نسباً. وليس الأمر كذلك، فالشيخ عبد القادر ليس بينه وبين شعيب نسب، والألباني أقرب إلى شيخنا بلدةً من شعيب، وكلهم أصولهم ألبانية كما قال شيخنا. والشيخ عبد القادر سلفيٌّ معتقَداً وعِلماً وطريقةً وسُلوكاً، بخلاف شعيب الأرنؤوط فلا يزال حنفياً، وفي تعليقاته العقدية ما فيها، وقد انتقده غير واحد فيما كتبه على السير وغيره، كما فعل الدكتور محمد بن خليفة التميمي. ولو سلمنا أنه بينهما شيء، فماذا كان؟ نجرح من خالف الشيخ الألباني هكذا! إن الأمر المتنازع فيه يُنظر فيه ويُستَمع فيه إلى أقوال المتنازعين كما قرِّر في موضعه من كتب الفقه.
ومع هذا فقد سأل أحد إخواننا الشيخ عن علاقته بالألباني هل هي قوية؟ فأجاب بأنها جيدة وهو يزوره إذا نزل الأردن، وأن الألباني يرسل له مؤلفاته الجديدة، وأراه منها صحيح الأدب المفرد وضعيفه. وهل تعلمون: أن الشيخ عبد القادر يُدرِّس صحيح الأدب المفرد للألباني. بل قد ينظر في كتب الألباني كالصحيحة والإرواء والضعيفة بحضرة طلبته دون أي حرج، إذا ما أراد أن يستخرج الحديث. هكذا الشيخ عرفناه لا يستحي من تدريس كتاب الألباني، لأن العلم رَحِمٌ بين أهله.
وأما عن علاقته بابن باز، فقد أرسله ابن باز إلى ألبانيا للدعوة. ولا يزال الشيخ إلى اليوم يسافر إليها للدعوة وتعليم الناس. فالشيخ يتقن اللغة الألبانية، مما ساعده على سهولة مخاطبة المدعوين.
الشيخ وعلوم الحديث النبوي الشريف
مسموعاته:
إن معظم مسموعات الشيخ، كانت من المشايخ في بداية طلبه للعلم حيث لم يكن له مسموعات بشكل خاص في علم الحديث، إنما كانت له اطلاعات عامة حيث قرأ في البداية كتاب صحيح مسلم من أوله إلى آخره، فحُبِّب إليه قراءة كتب السنة وقراءة كتب شراح الحديث أمثال ابن القيم حجر العسقلاني وغيره.
ويقول الشيخ: «لم أهتم بالإجازة من المشايخ، لأني أرى أن الإجازة الصحيحة، هي: (مجيز ومجاز ومجاز به) يعني أن يكون (الشيخ المجيز، والطالب المجاز، والكتاب المجاز به) ، هذه هي الإجازة الصحيحة. وأما القول: "أجزت لك ولعقبك من بعدك وللمسلمين جميعاً"، فهذه إجازة مفتوحة لا يقبلها كثير من العلماء. والإجازة كالشهادة في زماننا رجل درس في جامعة وتخرج فيها ودرس الدراسات العليا وأخذ بها شهادة هذه هي الشهادة المقبولة، وقد وصل الأمر في زماننا، هذا أيضا إلى شهادات كالإجازات المفتوحة فإن طالب العلم يشتري شهادة، بالمال ويصبح مدرساً بها، وهو ليس أهلاً لذلك، فمثل هذه الشهادة كالإجازة المفتوحة لا يستطيع طالب أن ينفع بها» .
اجتهاده في الحديث وبيان محفوظه منه:
ليس للشيخ اجتهاد خاص في علم مصطلح الحديث، إنما يعمل بما سار عليه علماء الحديث المتأخرين وشرّاحه. وبخاصة الحفاظ المتأخرين من أمثال الحافظ ابن حجر العسقلاني والحافظ العراقي.
أما عن محفوظ الشيخ. فالشيخ من خلال عمله في مجال تحقيق الكتب مدة طويلة واهتمامه بعلم الحديث، يحفظ ما يقارب عشرة آلاف حديث. ويؤكد على جانب من الأهمية: أن سلامة المُعتَقَد شرطٌ معيناً، قد يميل ويتعصب إليه، فيؤثر عليه في منهجه من خلال تصحيحه وتحسينه وتضعيفه للحديث مثلاً.
والشيخ عبد القادر يتمتع بحافظة قوية. يذكر عن نفسه أنه كان يحفظ خمسة أحاديث في فترة الاستراحة بين الحصص في زمن الدراسية الأكاديمية. فكان يتمتع بحافظة قوية -أدامها الله عليه-. وهذا معروفٌ عن الشيخ. فالشيخ حافِظٌ من الحُفّاظ، قَلَّ أن يُسأل عن حديثٍ إلا ويَسوْق لك مَتْنَهُ كاملاً. كم اندهشت من سُرعة استخراجه للحديث من الكتب. فإني كنت أجالس الشيخ في مكتبته العامرة، فيدخل عليه صنوف الناس ما بين سائِلٍ ومُستَرشِدٍ ومُتَحاكِمٍ إليه للإصلاح في أمور المنازعات -في الطلاق وغيره- فكان الشيخ موسوعةً في استخراج الحديث من مَظَانّه. يمُدّ يده إلى الكتاب، فيُخرج منه الحديث المسؤول عنه بسرعة عجيبة -حفظه الله-.
وكان كثيراً ما يُكرّر على طلبته مقولة بِشْر بن الحارث الحافي: «يا أصحاب الحديث، أدّوا زكاة الحديث» . قالوا: «وما زكاته؟» . قال: «أن تعملوا من كل مِئتي حديثٍ، بخمسة أحاديث» . وهذا الأثر أخرجه أبو نعيم في الحلية (8|337) ، والرافعي في التدوين (2|427) -واللفظ له- والبيهقي في الشّعب (1805) وهو صحيح عنه. ولذلك كان الشيخ يشرح في بعض دروسه خمسة أحاديث في مجلسٍ واحد.
يقول الشيخ عن حفظ متون الحديث: «اقتصار بعض طلاب العلم على حفظ الصحيحين فقط، أو على حفظ السنن الأربعة فقط، هذا لا يكفي المحدّث. وربما بعضهم يحفظ الأسانيد، فهذا ضياع للوقت، لأن أسانيد الأحاديث موجودة في الكتب ولا حاجة إلى حفظها. وقد كان المتقدمون يحفظونها لأن الكتب لم تكن مطبوعة، فيحتاج إلى نقلها من مخطوطة، ولا يوجد غيرها» . وهذا الذي ذكره شيخنا عن أسانيد الأحاديث، صحيح بالنسبة للفقيه. فلا يحتاج لحفظ الأسانيد طالما قد حفظ المتون وعرف صحتها وضعفها. لكن حفظ الأسانيد له أهمية كبيرة في معرفة علل الحديث، وإن كانت الفهارس والحواسب الآلية تساعد جداً في هذا العصر.
وفي هذا الموضوع يقول شيخنا: «الحاسوب آلة تسهل على الإنسان الرجوع الى المصادر ومعرفة وجود الحديث في الكتاب الفلاني. ولكن الحاسوب يرجع في الحديث إلى الألفاظ. فقد يكون الحديث الذي وردت فيه الكلمة غير الحديث المطلوب، وليس في هذا الموضوع. لذلك لابد من الرجوع إلى أهل هذا الفقه في معرفة الحديث والحكم عليه. إلا إذا كان الحديث بلفظه ومعناه وقد حكم عليه بعض أهل الفن المعروفين في هذا العصر، فلا بأس بالأخذ به» .
إملاؤه الحديث وتدريسه:
أما التدريس فقد بدأ به في حلقة شيخه صالح الفرفور في علم التجويد كما تقدم، ثم عمل الشيخ مدرساً لعلوم القرآن والحديث النبوي الشريف بين عامي (1373-1380، أي 1952 - 1959) في مدرسة «الإسعاف الخيري» بدمشق (التي درس فيها) . وقد أدرك فيها شيخه في التجويد: المقرئ صبحي العطار -رحمه الله-.
وفي عام (1381هـ - 1960م) انتقل إلى المعهد العربي الإسلامي بدمشق، فدرَّس فيه القرآن والفقه. ثم انتقل إلى التدريس في معهد الأمينية إلى ما قبل سنتين تقريبا (من وفاته رحمه الله) ، ومنه إلى معهد المحدث الأكبر الشيخ بدر الدين الحسني بدمشق. فكانت حصيلة شيخنا رحمه الله في التعليم والإمامة والخطابة خمسون سنة، قضاها احتسابا لله تعالى.
هذا بالإضافة إلى ذلك، فهو يقوم بتدريس ما يقارب الخمسين طالباً من مختلف بلدان الأرض مادة الحديث وغير ذلك. ويدرّس الألبان منهم بلغتهم الألبانية.
وقد قام الشيخ نفع الله به الأمة بتدريس جمع كبير من المصنفات، منها:
· كتب التوحيد والعقيدة.
· «الباعث الحثيث» شرح الشيخ أحمد محمد شاكر على مختصر علوم الحديث لابن كثير الدمشقي صاحب التفسير.
· «إرشاد طلاب الحقائق لمعرفة سنن خير الخلائق» للإمام النووي. وهو مختصر لكتاب ابن الصلاح، واختصر منه «التقريب» الذي شرحه السيوطي في كتابه «تدريب الراوي» .
· «قواعد التحديث في شرح فنون مصطلح الحديث» للشيخ السلفي جمال الدين القاسمي.
· «فتح المغيث في شرح ألفية الحديث» للحافظ السخاوي.
· «تدريب الراوي شرح تقريب النواوي» للسيوطي.
· «زاد المعاد» لابن القيم.
· «مختصر صحيح البخاري» للزبيدي مع شرحه «عون الباري» لصديق خان.
· «كفاية الأخيار» للحصني في الفقه الشافعي بالمعهد.
· «صحيح الأدب المفرد» .
· «مختصر تفسير الخازن» للشيخ عبد الغني الدقر.
· وغيرها كثير.
وظائفه العلمية ونشاطه الدعوي ودفاعه عن السنة:
ولما كان الشيخ في الستين من عمره ومتمتعاً بقوة الشباب، كان يسافر إلى بلده كوسوفا، في يوغسلافيا كل عام عدة أيام داعياً إلى الله. وكان يلقي المحاضرات والخطب، ويعقد الندوات ويناقش الجانحين عن الحق باللغة الألبانية، مبيناً سبيل الهداية والرشاد، وداعياً الناس إلى جادة الصواب، للتمسك بالدين الحنيف، والعمل بسنة رسول الله r وترك البدع والشذوذ والضالات.
واستطاع الشيخ بفضل من الله أن يدخل إلى قلوب الناس بتواضعه ومحبته لهم وحسن أخلاقه. ولقد عرفه أهل دمشق وغيرها في خطبه على المنابر، وفي دروسه في المساجد، بجرأته على قول الحق وبمنهجه في الدعوة، ودفاعه عن السنة النبوية الشريفة، متسلحاً بالتقوى والإخلاص لله تعالى. وهو سلاحٌ يتسلح به كل داع إلى الله إذا أراد لدعوته أن تقوم لها قائمة أو تنشط من سبات.
وقد اتخذ الشيخ -حفظه الله- الدعوة إلى الله والدفاع عن السنة منهجاً في حياته. وتقلد الشيخ الوظائف العليَّة في ديننا، (لكنَّها عند أهل الدنيا ليست كذلك) :
1) فقد تقلّد الخطابة في سنة (1369هـ - 1948م) وكان عمره آنذاك عشرين (20) سنة، حيث كان خطيباً في جامع «الدّيوانية البَرَّانية» بدمشق، حيث بقي فيه خطيباً لمدة خمسة عشر (15) عاماً. وهناك تعرف على جاره الشيخ الألباني دون أن تكون له به صلة علمية وقتها.
2) ثم انتقل إلى منطقة «القَدَم» بدمشق، حيث قام ببناء مسجد فيها بمساعدة أهل الخير، وسماه جامع «عمر بن الخطاب» . وعمل فيه إماماً وخطيباً لمدة عشر سنوات. و «القدم» حيٌّ في أطراف دمشق، يقول بعض العوام أن في تلك المنطقة أثر قدم رسول الله r، وهذا كذب إذ أنه في رحلته للشام في صغره لم يتجاوز بُصْرى، كما يعلم الجميع. والبعض يقول بأنها قدم موسى عليه السلام، وقد كذبهم ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم".
3) ثم انتقل إلى منطقة «الدحاديل» بدمشق، وكان خطيباً في جامع «الإصلاح» وبقي فيه مدة عشر سنوات.
4) ثم انتقل إلى جامع «المُحمّدي» بحيّ المِزَّة، وبقي فيه خطيباً ما يُقارب ثماني سنوات. وكنت أحضر فيه خطبه. (و «المِزَّة» كانت في الماضي قرية عند جبل يسمى باسمها في غوطة دمشق. وهي الآن من الأحياء الراقية في مدينة دمشق نتيجة التوسع العمراني) . ثم منع الشيخ من الخطابة وغيرها سنة 1415، بسبب كلامه عن الاحتفال بعيد رأس السنة وما ساقه في الخطبة من القول بكفر الصرب النصارى وغيره، فاشتكى عليه الصوفية العملاء وقالوا: إنه يكفر النصارى! (مع العلم أن هذا إجماع من العلماء، كما نقل ابن حزم والقاضي عياض) . إلى أشياء أخرى لا نود ذكرها هنا.
5) لكن الشيخ بقي يلقي دروسه في معهد الأمينية (وهي مدرسة قديمة للشافعية، لها مبنى جديد في جامع الزهراء بالمزة) . وبقي يقوم بالتدريس والوعظ ولا يترك مناسبة من زواج أو وفاة إلا ويتكلم فيها وينبه الناس إلى السنة الصحيحة ويدعوهم إلى ضرورة ترك البدع والمخالفات في الشريعة.
هذا مع انكبابه على التحقيق والتأليف -كما سيأتي الكلام عليه- وتدريسه العلم للناس وإلقاء المحاضرات. فالشيخ لا تكاد تمر حادثة أو مناسبة من عرس أو وليمة أو وفاة إلا ويقوم بتبيين السنة من البدعة، مرغباً في الأولى ومرهباً ومحذراً من الثانية.
وخطابة الشيخ قَلَّ أن تجد لها نظيراً. فإنك لو حضرت له لم تلتفت عنه طرفة عين: يشُدّك بكلامه، وأسلوبِه في التعبير عمَّا يتكلَّم به. فكم من إشارةٍ كانت معبِّرةً عن المعنى أكثر من لفظها؟ هذا عدا طريقة كلامه: فالشيخ يعرف متى يرفع الصوت ومتى يخفضه، في طريقة غاية في الجمال، إضافة إلى أن الشيخ جهوري الصوت. ولقد كان المسجد المحمدي يمتلئ بالمصلين في خطبة الجمعة، وكذا في مسجد عمر بالقدم.
ومن الطرق التي يستعملها في خطبه أن يورد الحديث بذكر اسم الصحابي ومن أخرجه ويترجم لهم ترجمة مختصرة جداً ثم يشرع في الشرح مستشهدا بالآيات والأحاديث. وهذا كله في دقة وتناسب وتنسيق جميل. ثم بعد انتهاء الخطبة يجيب الشيخ على أسئلة السائلين، في الحديث والفقه والتوحيد وغير ذلك. فلا تكاد تخرج من المسجد إلا وقد شحنت إيماناً وعلماً. حقًّا إن من لم يحضر خطب الشيخ يراني مُبالغاً أو مغالياً، لكن هذه ليست شهادتي بل هي شهادة جميع من أعرفهم من أصحابي وغيرهم ممن كانوا يحضرون خطب الشيخ. ولقد كان الناس يتدفقون على المسجد المحمدي من كلّ فَجٍّ وصوب، يأتون إليه من أماكن بعيدة جداً لسماع الخطبة. وإذا حضرتَ فسمعت الشيخ: ذهب عنك ما تجده من تعب الطريق، وأعقب ذلك لذة إيمانية مما تسمعه من أحاديث الإيمان!؟
أسباب هذا العطاء العلمي:
مما لا شك فيه ولا ريب، أن توفيق الله سبحانه وتعالى كان فوق الأسباب كلها التي هيّأت للشيخ هذه الأعمال الكثيرة. فمن أسباب هذا العطاء العلمي:
1) تفرغه التام لخدمة السنة النبوية الطاهرة، وهدفه السامي من دعوته.
2) بعده عن الحياة العامة والمجاملات الاجتماعية الفارغة التي لا تليق بأهل العلم أصلاً.
3) المنهج المستقيم الذي اتبعه في حياته وهو منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم، وسلامة معتقده.
4) حبه لعلم الحديث النبوي الشريف ودأبه في المطالعة.
5) كثرة المراجع بين يديه، إذ لديه مكتبة عامرة بالكتب النافعة والمصنفات، وخاصة كتب علم الحديث.
6) ملازمته الطويلة للمكتبة الظاهرية بدمشق مدة طويلة من الزمن للنظر في المخطوطات والتحقيق فيها.
كتبه وتحقيقاته:
لم يعتمد الشيخ منهج التأليف، ولكنه اعتمد التحقيق منهجاً له. يقول في ذلك: « ... ذلك لأن المؤلفات كثيرة، والتحقيق أولى. وذلك حتى نُقدِّمَ الكتاب إلى طالب العلم محقَّقاً ومصحَّحاً حتى يستفيد منه» . ويقول الشيخ: «فإني -بعونه تعالى- حقّقْت أكثر من خمسين كتاباً كبيراً وصغيراً، في الفقه والحديث والتفسير والأدب وغيرها، وهي موجودة في العالم الإسلامي» . ويقول كذلك: «اخترت التحقيق على التأليف، لأن التأليف عبارة عن جمع معلومات دون تمحيص ودون تحقيق (يقصد في الغالب) . أما التحقيق فإن طالب العلم يقف فيه في المسألة على صحتها أو عدم صحتها، لأن المحقق عليه أن يبين الحديث وصحته وحسنه وضعفه أو وضعه، فيكون طالب العلم على بينة من أمره» .
إن باكورة تحقيقات الشيخ هو:
1 - إتمام تحقيق كتاب "غاية المنتهى" في الفقه الحنبلي الذي بدأ تحقيقه شيخ الحنابلة آنذاك جميل الشطي -رحمه الله-، حيث طلب من الشيخ إتمام العمل على تحقيقه.
وفي بداية الستينات انتظم الشيخ للعمل مديراً لقسم التحقيق والتصحيح في المكتب الإسلامي بدمشق، وذلك بصحبة الشيخ شعيب الأرناؤوط -حفظه الله-. واستمر في عمله هذا حتى عام (1389هـ - 1968م) . وفي غضون ذلك وبعده قام بتحقيق كتب كبيرة بالاشتراك مع شعيب، وصدرت عن المكتب الإسلامي، منها:
2 - زاد المسير في علم التفسير، لابن الجوزي في 9 مجلدات.
3 - المبدع في شرح المقنع، لابن مفلح في 8 مجلدات.
4 - روضة الطالبين، للنووي في 12 مجلداً.
8 - جلاء الأفهام في الصلاة على خير الأنام، لابن القيم في مجلد.
- مشكاة المصابيح، للتبريزي. وقد شارك في تخريج أحاديثه الشيخ ناصر الدين الألباني -رحمه الله-.
5 - الكافي، لابن قدامة المقدسي.
7 - رفع الملام عن الأئمة الأعلام، لابن تيمية.
6 - مختصر منهاج القاصدين، للمقدسي.
وأخرج معه أيضا وطبع عن دار مؤسسة الرسالة:
9 - زاد المعاد لابن القيم في 5 مجلدات. وقد عمل فيه الشيخ عبد القادر أولا، ثم شاركه شعيب في تحقيقه.
10 - المسائل الماردينية لابن تيمية، قام بتحقيقها وتصحيحها حيث كان يعمل بالمكتب الإسلامي.
11 - ومن أعماله الكبيرة المشهورة: تحقيق "جامع الأصول من أحاديث الرسول r" لابن الأثير الجزري. استغرق عمل الشيخ فيه خمس سنوات كاملة مليئة بالصبر والجهد والعمل الدؤوب. وروعة هذا العمل أن ذلك الكتاب يحوي الصحيحين وسنن النسائي وأبي داود والترمذي وموطأ مالك. فهو يحوي على عامة الأحاديث الفقهية ويكاد يستوعب الصحيح منها، لكنه مخلوط مع الضعيف ومحذوف الإسناد. فالذي قام به الشيخ هو تخريج تلك الأحاديث والحكم عليها بمنهج معتدل منصف. وبذلك صار بإمكان الفقيه معرفة حكم الحديث الذي يحتاجه بكل يسر وسهولة. وهو يعمل على طبعة جديدة له. وعمله الجديد في جامع الأصول هو بمثابة إعادة نظر وتحقيق جديد له، بالإضافة إلى ضم زوائد ابن ماجة في الحاشية.
12 - الأذكار للنووي - مجلد
13 - مختصر شعب الإيمان للبيهقي - مجلد
14 - الحكم الجديرة بالإذاعة لابن رجب.
15 - فتح المجيد شرح كتاب التوحيد - مجلد
16 - لمعة الاعتقاد لابن قدامة.
17 - التبيان في آداب حملة القرآن للنووي - مجلد
18 - كتاب التوابين لابن قدامة - مجلد
19 - وصايا الآباء للأبناء لأحمد شاكر - تعليق.
20 -الإذاعة لما كان ويكون بين يدي الساعة لصديق خان.
21 - شرح ثلاثيات مسند الإمام أحمد للسفاريني - مجلدين. طبع بالمكتب الإسلامي، لكن كان الشيخ يقوم بالتعليق عليه وشرحه، فلا أدري أنتهى منه أم لا؟
22 - كفاية الأخيار للحصني.
وتحقيقاته من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية كثيرة، منها:
23 - قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة
24 - الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان
25 -الكلم الطيب
وهناك غيرها، ومن كتب ابن القيّم:
26 -الوابل الصيب
27 - الفروسية
28 - فتاوى رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن القيم
29 -عدة الصابرين
ومن الكتب حققها الشيخ وانتهى منها لعلها لم تطبع بعد (هي الآن في المطبعة في الرياض) :
36 - الوجيز في منهج السلف الصالح، ولهذه الرسالة قصة.
37 - وصايا نبوية - شرح فيها خمسة أحاديث أخذا بما قاله بشر بن الحارث - كما قدمنا قوله أول الترجمة -.
كما أنه اشترك في تحقيق شرح الطحاوية المطبوعة بالمكتب الإسلامي.
وغيرها كثير مما علق عليه الشيخ أو أشرف على تحقيقه.
7 - أخبار وفوائد:
ومن نكته: كان يقول كثيراً: لا يجوز همز المشايخ "المشائخ". وهذه فائدة لغوية على خطأ شاع هذه الأيام.
ومن الطرائف التي وقعت مع الشيخ أن قال له أحد الإخوة الأفاضل: «شيخنا بلغني أنهم منعوا كتاب رياض الصالحين النووي من الأسواق، فما السبب في هذا؟» . فقال الشيخ مازحاً: «لعل أحداً من هؤلاء الذين لا يفهمون، لما قرأ للنووي، ظن الكتاب يتحدث عن السلاح النووي، ولعله كذلك!!!» فما أحمقهم وأجهلهم!
وقدمت إلى الشيخ عبد القادر في سكنه بدمشق بحي الميدان. وكان يفتح مكتبته يومياً من الساعة الخامسة مساءً حتى الساعة السابعة. فوجدته يأتي إليه طلاب علم من جميع البلدان، ليس العربية فحسب، بل كثير من طلبته أعاجم من سنة إيران ومن الشيشان ومن السنغال ومن مسلمي الأمريكان والبريطانيين وغيرهم. تجدهم يحيطون به بإجلال كأن على رؤوسهم الطير. كما يأتيه الكثير من الناس من عوام بلاد الشام يسألونه عن مسائل الطلاق، كما سبق بيانه.
ومن أخبار الكتب التي شارك في تحقيقها شيخنا عبد القادر كتاب مشكاة المصابيح للتبريزي الذي حققه الألباني، فقد كان يقوم على تصحيحها ومراجعتها الشيخ عبد القادر باعتباره مدير قسم التصحيح بالمكتب الإسلامي، وكان قد رفض بعض أحكام الشيخ، كما حصل في رده لحكم الشيخ ناصر على حديث كتاب ابن حزم: «لا يمس القرآن إلا طاهر» . فقد كان الشيخ الألباني ضعفه أولاً، ثم ناقشه الشيخ عبد القادر، وأوقفه على تعليق الشيخ أحمد شاكر رحمه الله على المحلى (1|81-82) ، فرجع الشيخ الألباني إلى قول الشيخ عبد القادر.
ومن الأخبار الطريفة ما أخبرنا به أخانا الشيخ محمد زياد التكلة قال: لما زار شيخنا الرياض بتاريخ 8|4|1424 وكان في المجلس بعض الكبار، مثل الشيخ عبد الرحمن الباني، والشيخ محمد لطفي الصباغ، وعدد من طلبة العلم المعروفين، حضر المجلس الأخ معتز الفرا، مصطحبا ابنته الرضيعة (شيماء) وعمرها شهران تقريبا على ما أذكر، فقام شيخنا عبد القادر من مجلسه إليها، وحملها، وبدأ يعوِّذها ويدعو لها، فقلتُ لشيخنا: ألا تحنِّكها أيضا؟ فضحك شيخنا كثيرا، وقال: لا، حاجتنا سيدنا! يكفينا الذي عندنا! ذلك أن شيخنا في إحدى زياراته الدعوية لبلاده كوسوفو، أُتي له بمولودة، فحنَّكَها، وعوَّذها، ودعا لها بالبركة، ثم دارت الأيام والليالي وأصبحت زوجته!
قال الشيخ التكلة: وشيخنا بقي متابعا لجديد الكتب ولا سيما في علم الحديث حتى وفاته، وكنتُ إذا اشتريت للشيخ كتبا لا يرضى أن يأخذها بلا ثمن مهما كان، ومشى على ذلك سنوات، ثم صرت أستطيع أن أدخل عليه بعض الكتب الهدايا بالحيلة والإحراج! وأذكر أنه لما وصلت أجزاء العلل للدارقطني إلى العاشر وأحضرته معي للشام صوره مني مجموعة من الطلاب لعدم وجود نسخه هناك، وأخذت حساب شيخنا في التصوير، فلم جئت إليه بالكتاب فرح بالنسخة، ورفض أخذها هدية، بل أخذ يُخرج إلي أوراق النقد فئة الخمسمائة ليرة تباعا، حتى زاد على العشرة آلاف (والنسخة كلفت حوالي الألفين فقط!) ، وبالكاد حتى اقتنع شيخنا أنها لم تكلف إلا كذا!
استمع لمحاضرة صوتية
لعل كثير منكم متشوق إلى سماع صوت الشيخ. فأبشركم بأن هناك شريط له في موقع "الإسلام ويب". الشيخ يشرح فيه حديث عن الحياء.
وهناك دروس أخرى له تجدها على هذه الروابط:
الدرس الأول - يوم السبت 20|صفر|1425هـ - 10|4|2004م - اضغط هنا -
الدرس الثاني - يوم الأحد 21|صفر|1425هـ - 11|4|2004م - اضغط هنا -
الدرس الثالث - يوم الأثنين 22|صفر|1425هـ -12|14|2004م - اضغط هنا -
الدرس الرابع - يوم الثلاثاء 23|صفر|1425هـ - 13|4|2004م - اضغط هنا -
الدرس الخامس - يوم الأربعاء 24|صفر|1425هـ - 14|4|2004م - اضغط هنا
الدرس السادس - يوم الخميس 25|صفر|1425هـ - 15|4|2004م - اضغط هنا
الدرس السابع - يوم الجمعة 26|صفر|1425هـ - 16|4|2004م - اضغط هنا -
الدرس الثامن - يوم السبت 27|صفر|1425هـ - 17|4|2004م - اضغط هنا -
الدرس التاسع - يوم الأحد 28|صفر|1425هـ 18|4|2004م - اضغط هنا -
قصة حصول التحريف بكتاب الأذكار للنووي الذي حققه شيخنا
قام أحد المسؤولين في "هيئة مراقبة المطبوعات" بالمملكة السعودية، بتحريف كتاب "الأذكار" للإمام النووي، الذي حققه شيخنا عبد القادر الأرنؤوط، بدون علم شيخنا. وما إن نزل إلى الأسواق، حتى طار به أهل البدع كشيطان العقبة، في كل أرض زاعمين أنهم أخذوا على شيخنا ممسكاً، رغم أنه غير مسؤول عنه.
أولاً - فور اطلاع الشيخ على ما وقع في الكتاب من تحريف، أعلن براءته، وطَبَعَ وُريقاتٍ تُبيّن ما حصل بعنوان "رد على افتراء". وكان يُعطي هذه الوريقات لكل من يأتيه سائلاً عن هذا الموضوع.
ثانياً - سبب عدم انتشار هذه الوريقات في نجد والحجاز -مع حرص الشيخ على نشرها- هو رفض كافة الصحف السعودية لذلك لما سيتبين لاحقاً من فضح جهات رسمية في المملكة.
ثالثاً - طار أهل البدع بهذه الحكاية كأنهم قد وقعوا على صيْدٍ ثمينٍ. وطنطنوا حولها شهوراً بل سِنيناً. ومع اطلاع بعضهم على هذه البراءة، إلا أنهم تجاهلوها، واستمروا في افترائهم وبهتانهم. فأسأل الله أن يجعل ذلك في ميزان حسنات الشيخ، وأن يزيده بذلك رفعة في الدنيا والآخرة.
رابعاً - لو قام أحد الطّابعين بتغيير حرفٍ واحدٍ من كتب الشيخ عبد الفتاح أبو غدة -مثلاً- دون إعلامه، لكانت قامت الدنيا ولم تقعد، ولسَحَب الشيخ كتبه من عند ذلك الطابع. وبالمناسبة فإن الشيخ من أشدّ الناس كراهيةً لمِثلِ هذا العمل المشين -وهو التصرّف في عبارات الأئمة بالبتر والتغيير-. وكان يُنكِرُ ما وقع للشيخ حامد الفقي في بعض كتب ابن تيمية وابن القيم من تغييره لعبارات لا تتّفق مع ما ارتآه، والله الموفق لا رب غيره. وأهل البدع -كأمثال هذا الراد على شيخنا- هم أفعل الناس لمثل هذا، والقصص في هذا كثير. ومن هؤلاء المشهورين بمثل هذا كمال الحوت -بلعه الحوت- هذا الحبشيّ المبتدع الضّال المجاهر ببغض ابن تيمية -بل بتكفيره-، وهو الذي جمع ذاك الكتاب الباطل في تكفير ابن تيمية، وطبعه باسم "كمال أبو المنى" أو نحوها| ثم أعاد طبعه بغير إسمٍ عليه. وهو من طائفة الأحباش المارقة. وهم يفعلون ما يفعلون حسبة! وهو مشهور عنهم. وهكذا أمثاله نسأل الله تعالى أن يبطل كيدهم لأهل السنة.
خامساً - نص براءة الشيخ:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد.
فإن الكتاب الذي بين أيدينا "الأذكار" للإمام النووي -رحمه الله- قد طُبِعَ بتحقيقي في مطبعة "الملاّح" بدمشق سنة 1391هـ الموافق 1971م. ثم قمت بتحقيقه مرة أخرى، وقام بطبعه مدير دار الهدى بالرياض الأستاذ "أحمد النحّاس". وكان قد قَدّمَهُ للإدارة العامة لشؤون المصاحف ومراقبة المطبوعات برئاسة "البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد في الرياض". وسُلِّم الكتاب إلى هيئة مراقبة المطبوعات، وقرأه أحد الأساتذة وتَصرّفَ فيه في: "فصل في زيارة قبر رسول الله r"، وجَعَله: "فصل في زيارة مسجد رسول الله r"! مع تغيير بعض العبارات في هذا الفصل صفحة (295) ، وحذف من صفحة (297) قصة العتبي، وهو محمد بن عبيد الله بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان بن صخر بن حرب بن أمية الأموي العتبي الشاعر، الذي ذكر قصة الأعرابي الذي جاء إلى قبر رسول r وقال له: «جئتك مستغفرا من ذنبي» ، وأن العتبي رأى النبي r في المنام وقال له: «يا عتبي إلحق الأعرابي فبَشّره بأن الله قد غفر له» ، وحَذَفَ التّعليق الذي ذكرته حول هذه القصة. وقد ذكَرتُ أنها غير صحيحة، ومع ذلك كله حذفها وحذف التعليق الذي علقته عليها!
وهذا التصرّف الذي حَصَلَ في هذا الكتاب، لم يكن مِنّي أنا العبد الفقير إلى الله تعالى العلي القدير "عبد القادر الأرناؤوط"، وكذلك لم يكن من مدير دار الهدى الأستاذ "أحمد النحّاس". وإنما حَصَل من "هيئة مراقبة المطبوعات". ومدير دار الهدى ومحقّق الكتاب لا يحمِلان تِبعة ذلك، وإنما الذي يحمل تبعة ذلك "هيئة مراقبة المطبوعات".
ولا شَكَّ أن التصرُّف في عبارات المؤلّفين لا يجوز. وهي أمانةٌ علميةٌ. وإنما على المحقّق والمدقّق أن يترك عبارة المؤلف كما هي، وأن يُعلِّقَ على ما يراه مخالفاً للشرع والسُّنة في نظره، دون تغييرٍ لعبارة المؤلّف.
وكان الأخ في الله الأستاذ "أحمد النحّاس" كلّمني بالهاتف من الرياض إلى دمشق، وذكر لي أن المدقّق تصرّف في الكتاب، وأنه حصل تغييرٌ وتبديلٌ. ولكن كلّ ظنّي أنه تصرّفٌ مع التعليق على ذلك المكان، كما هي عادة المحققين والمدققين. وأخيراً طُبِعَ الكتاب، وطُرِحَ إلى السوق في الرياض. وبعد اطلاعنا على الكتاب، ما كان من مدير دار الهدى الأستاذ "أحمد النحاس" إلا أن قام بطباعته مرةً أخرى، ورَدّ قصة العتبي المحذوفة إلى مكانها -كما كانت سابقاً في جميع الطبعات- مع التعليق عليها من قِبَليْ. وزِدتُ عليه بياناً أن هذه القصة غير صحيحة. وفي هذه الطبعة الأخيرة ردَّ كلام النووي كما كان أيضاً في جميع الطبعات، مع التعليق عليه.
وفي الحقيقة -كما قلت- لم يكن التصرّف في هذا الكتاب: لا من قِبَليْ، ولا من قِبَلِ مدير دار الهدى الأستاذ أحمد النحاس. وهدى الله تعالى من تَصرَّفَ في الكتاب، ورَدَّنا الله تعالى وإياه إلى الصواب، وسامح الله تعالى الأستاذ "محمد عوامة الحلبي" الذي اتهمني في كتابه "صفحات في أدب الرأي" صفحة (77) بتغيير نصوص العلماء والتلاعب بها. وقال في التعليق: «أكتب هذا بناءً على أنه هو فاعل ذلك، وعلى أنه هو المسؤول. فقد طبع اسمه على الكتاب، والله أعلم بما وراء ذلك» . هذا وقد بيّنتُ مَنْ هو وراء ذلك، فسامحه الله وهدانا وإياه إلى الصواب. فإنه قد فتح الباب في الاتهام لمحقّقٍ جديدٍ اسمه "سُبَيع حمزة حاكمي الحمصي" وهو الآن يعمل في جدة. فقد اتّهمني في مقدمة كتاب "الأذكار" الذي حققه من جديد بـ"الخيانة" وعدم الأمانة والتحريف والتشويه والحذف والتبديل. وتَهَكَّمَ بلقب الشيخ وقال: «اتق الله أيها الشيخ، وارفع يدك عن كتب التراث، وابحث عن مصدر آخر للرزق» . ويقول: «ما كتبنا هذا لنشهر، بل لنحذّر. فالشيخ لا يعرفنا ولا نعرفه» ! يقول هذا ويقِرّ بأنه لا يعرفني ولا أعرفه. فكيف يتهمني بهذه الاتهامات الباطلة وهو لا يعرفني ولا يعرف حقيقة ما حصل في الكتاب؟ ومن الذي غيّرَ وبدّل؟ وهل أنا المتصرّف أم غيري بمجرد أنه سمع من الناس؟ أهكذا يعمل طالب العلم؟ والله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} (6) سورة الحجرات. ويقول تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} (58) سورة الأحزاب. ويقول تعالى: {وَمَن يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا} (112) سورة النساء. ويقول تعالى: { ... وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى} (61) سورة طه.
وهذا المُتّهم "الشيخ سبيع حمزة حاكمي الحمصي" مَرَّ على قصة العتبي أثناء تحقيقه صفحة (284-285) من طبعته، ولم يُعلّق عليها شيئاً، مع أن هذه القصة ليس لها إسنادٌ صحيحٌ، ومتنها مخالفٌ للأحاديث الصحيحة. وسكت عنها وكأنها قِصةٌ صحيحةٌ مُسلَّمٌ بها. وقد قال الحافظ محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي الحنبلي -تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذ الحافظ المِزِّيّ- في كتابه "الصارم المنكي في الرد على السبكي": «ذكرها الحافظ البيهقي في "شُعَب الإيمان" بإسنادٍ مظلمٍ» . قال: «ووَضَعَ لها بعض الكذّابين إسناداً إلى عليٍّ - رضي الله عنه -» . وقال أيضاً ابن عبد الهادي في "الصارم المنكي في الرد على السبكي" صفحة (430) : «هذا خبرٌ موضوعٌ، وأثَرٌ مُختَلقٌ مصنوعٌ لا يصلح الاعتماد عليه، ولا يحسن المصير إليه، وإسناده ظُلُماتٍ بعضها فوق بعض» .
وقد أخطأ الإمام النووي -رحمه الله- حيث ذكر هذه القصة وسكت عليها. وكان الأوْلى أن لا يذكرها حتى لا يغر بها القراء ويستشهدوا بها. أقول: كيف تصح هذه القصة وفيها يقول العتبي: «جاء الأعرابي إلى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له: "جئتك مستغفرا من ذنبي"، بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في قبره؟ والله تعالى يقول في كتابه: { ... وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ ... } (135) سورة آل عمران. أي لا يغفرها أحدٌ سواه. قال الحافظ ابن عبد الهادي الحنبلي: «ولم يفهم أحدٌ من السلف والخلف من الآية الكريمة { ... وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا} (64) سورة النساء، إلاّ المجيء إليه في حياته r ليستغفر لهم» .
وهذه قضية لها علاقة بالعقيدة والتوحيد، فلا يجوز التساهل فيها والسكوت عنها. وإن عقائد السلف الصالح أنهم يعبدون الله تعالى وحده ولا يشركون به شيئاً. فلا يَسأَلون إلا الله تعالى، ولا يستعينون إلا بالله عز وجل، ولا يستغيثون إلا به سبحانه، ولا يتوكلون إلا عليه جل وعلا. ويتوسّلون إلى الله تعالى بطاعته وعبادته والقيام بالأعمال الصالحة لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ ... } (35) سورة المائدة. أي تقربوا إليه بطاعته وعبادته سبحانه وتعالى.
قال عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه -: «اتّبِعوا ولا تبتدِعوا فقد كُفيتم» . وقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: «قِفْ حيث وَقَفَ القوم. فإنهم عن عِلْمٍ وقفوا، وببَصرٍ نافِذٍ كفّوا» . وقال الإمام الأوزاعي إمام أهل الشام رحمه الله: «عليك بآثار من سلف، وإن رفضك الناس. وإياك وآراء الرجال، وإن زخرفوه لك بالقول» . وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: «إلزم طرق الهدى، ولا يغُرّك قِلّةَ السالكين. وإيّاك وطرق الضلالة، ولا تغتر بكثرة الهالكين» .
هذا وإن شريعة الله تعالى محفوظة من التغيير والتبديل، وقد تكَفَّلَ الله تعالى بحفظها فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (9) سورة الحجر. ورسول الله r قال في حديثه: «يحمِلُ هذا العِلْمَ من كُلِّ خَلَفٍ عُدُوله: يَنفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين» . وهو حديثٌ حَسَنٌ بطرقه وشواهده.
نسأل الله تعالى أن يهدينا للعقيدة الصافية، والسريرة النقية الطاهرة، والأخلاق المرضية الفاضلة عند الله تعالى، وأن يعافينا من اتهام الأبرياء. وأن يُحْيينا على الإسلام، وأن يميتنا على الإيمان وشريعة النبي محمد عليه الصلاة والسلام. اللهم تَوَفَّنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، واغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين يوم يقوم الحساب. ونسأله تعالى أن يلهمنا الصواب في القول والعمل.
كما نسأله تعالى أن يجعل قلوبنا طاهرة من الحقد والحسد، وعامرة بذكر الله تعالى والصلاة على رسوله - صلى الله عليه وسلم -. وأن يُلهمنا القول بالحق في الرضى والغضب، وأن يرزقنا التقوى في السر والعلانية { ... هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} (56) سورة المدثر. إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
طالب العلم الشريف
العبد الفقير إلى الله تعالى العلي القدير
(عبد القادر الأرنؤوط)
التوقيع
دمشق 1 ربيع الأول 1413 هـ
29 آب 1992 م
http://alarnaut.com/
بواسطة العضو ابو ابراهيم الكويتي
اسم الکتاب : المعجم الجامع في تراجم المعاصرين المؤلف : مجموعة من المؤلفين الجزء : 1 صفحة : 175