وهكذا كان عدم الحذر -حتى بعد الانتصار- هو السبب الذي مكن الروم والبربر من التجمع واغتنام الفرصة الحاسمة، وقد دوى خبر مقتل عقبة في إفريقية والمغرب دويا هائلا، وكان له أثر عميق في نفوس المسلمين. وكان "كسيلة" قد زحف بجيوش لا حصر لها إلى القيروان، "فانقلبت إفريقية نارا وعظم على المسلمين، فخرجوا هاربين"[1]. ولم يبق في القيروان إلا الشيوخ والنساء والأطفال وكل مثقل بالأولاد، فأرسلوا إلى "كسيلة" يسألونه الأمان فأجابهم إلى ذلك، ودخل المدينة في المحرم "سنة 64هـ-682م" وجلس في قصر الإمارة أميرا على البربر ومن بقي في القيروان من العرب[2].
ويتفق المؤرخون على أن زهير بن قيس خليفة عقبة على القيروان أراد -بعد كارثة "تهوذة"- أن يقاتل كسيلة بمن بقي من الجيش، ويداف عن المدينة، وخطب في الناس قائلا: "يا معشر المسلمين، إن أصحابكم قد دخلوا الجنة، وقد من الله عليهم بالشهادة، فاسلكوا سبيلهم، ويفتح الله لكم دون ذلك". فاعترض عليه حنش الصنعاني "وهو من التابعين، وممن اشترك في فتح الأندلس"، وطالبه بالانسحاب مع بقية الجيس إلى المشرق حتى لا يتعرض المسلمون لسيوف البربر، وقال: "لا والله ما نقبل قولك، ولا لك علينا ولاية، ولا عمل أفضل من النجاة بهذه العصابة "الجماعة" من المسلمين إلى مشرقهم". ثم قال: "يا معشر المسلمين، من أراد منكم القفول إلى مشرقه فليتبعني" فاتبعه الناس، ولم يبق مع زهير إلا أهل بيته وذويه، فاضطر إلى اللحاق بهم، ونزل بقصره في "برقة"، وأقام بهها مرابطا إلى أن ولي عبد الملك بن مروان الخلافة "سنة 65هـ-683م". وبهذا خرجت "إفريقية" من أيدي المسلمين، وتراجعوا إلى برقة التي كان عمرو بن العاص قد فتحها منذ أربعين سنة، وكان على من أتى بعد "عقبة" أن يبدأ العمل من جديد. [1] رياض النفوس للمالكي "1/ 28"، وراجع: البيان المغرب "1/ 29-30". [2] رياض النفوس "1/ 28"، والبيان المغرب "1/ 30-31".
3 البيان المغرب "1/ 31"، وراجع: رياض النفوس "1/ 28".