اسم الکتاب : عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان المؤلف : العيني، بدر الدين الجزء : 1 صفحة : 417
وكان سبب عدولهم عن دمشق أن جواسيس قطلوشاه قد حضروا إليه في الليل، وعرفوه أن النواب مع عساكرهم، لما سمعوا بوصولك إليهم، وتحققوا أن عسكرك عظيم، وأنهم ليس لهم طاقة للملاقاة، اتفقوا على أن يخلوا لك دمشق حتى تدخل إليها وتشتغل بأهلها، وينجون هؤلاء بأنفسهم، مع أنا سمعنا أن لهم عسكراً خرجوا من مصر وهم مقبلون، فهؤلاء قد ذهبوا إليهم حتى يعتضدون بهم، ثم يرجعون جملة واحدة ويعملون شيئاً وأنتم مشغول في المدينة، فلما سمع قطلوشاه ذلك أعلم أمراءه بذلك وأكابر عسكره، واتفق رأيهم أن لا يدخلوا دمشق، فإنه إن دخلوا يفسد أمرهم ويشتغل العسكر بالكسب، فيحصل الفساد إن عاد عسكرهم علينا، ومع هذا يمكن أن يكون هذا مكيدة من نائب الشام، فعند ذلك ركبوا وقصدوا الطريق التي من وراء المرج حتى ينزلون من خلف دمشق على الكسوة، ثم يتتبعون آثار عسكر الشام، فحيثما يتلاقون يهم يحطمونهم.
فلما رأت أهل دمشق ذلك حمدوا الله تعالى، واستمروا مقيمين في الجامع، مشتغلين بالدعاء والقنوت في الصلوات.
قال الراوي: وكان يوم خروج الشاميين من دمشق يوم نزول السلطان الملك الناصر بعساكره على رأس العقبة، وكان يوم استهلال شهر رمضان المعظم.
ذكر خروج السلطان من القاهرة
ووصوله إلى شقجب
كان خروج السلطان من مصر في الثالث من شعبان من هذه السنة، وأسرع في السير إلى أن وصل إلى راس العقبة مستهل رمضان كما ذكرنا، والتقى الأمراء بالسلطان وترجلوا وباسوا الأرض، وما لحقوا أن يقفوا إلا وأجناد العدو قد وصلت بوصوله، فوقف السلطان وأمر للنقباء والحجاب أن يدوروا على الجيش ويأمروهم بلبس الأسلحة والاستعداد للملاقاة، وبقي السلطان والأمراء راكبين في الموكب سائرين، واستعد العساكر باللبس والتجهيز.
وفي ذلك الوقت وقع كلام فج بين الأمير شمس الدين سنقر العلائي - أحد الأمراء البرجية - وبين الأمير حسام الدين الأستادار، وكان هذا سنقر من جمرة البرجية التي تتعد وكان مدلاً بشبابه وقوة ساعده وفروسيته، ولما رأى الأمراء سلَم عليهم، ورآهم على تلك الصورة، أنكر عليهم، فصار كل أحد منهم يحكي له حكاية، ومال بعضهم فيها على حسام الدين الأستادار حيث أنه منع العسكر عن ملاقاة العدو، وترك دمشق وأخذ العسكر وأخلاها، وأشار إليهم أن الملاقاة تكون بحضور السلطان، وأن الأمير ركن الدين بيبرس وافقه على هذا الرأي، فتبعته الأمراء، فما سمع سنقر هذا الكلام إلا وقد ركض فرسه وسط الموكب وقال للأمير بيبرس: يا أمير إش هذا الرأي الذي فعلته بالناس حتى أفسدت حال العسكر، وكسرت قلوب أهل دمشق، ونهبت أموالهم، وسمعت من واحد قد كبر وخرف وما يشتهي الموت، والأمير حسام الدين إلى جانب السلطان يتحدث معه ويسمع كلامه، ثم التفت بيبرس إليه وقال له: اسكت، ما هذا الكلام؟ ثم قال حسام الدين: يا أمير - يخاطب سنقراً - أما أنا فإني أشرت إليهم، فالله يطالبني بها يوم القيامة إن كان قصدي فساد المسلمين، وأما أني كبرت فصحيح، ولكني ما خرفت، فوقع بينهما كلام كثير، ثم غضب بيبرس وصاح على سنقر العلائي وأخرجه من مكان كان واقفاً فيه.
قال الراوي: سمعت من قال: إني رأيت حسام الدين تخرج الدموع من عينيه، وقد بلت شيبته، وهو يتمثل بأبيات من شعر الطغرائي:
تقدمني رجال كان سوطهم ... وراء خطوي إذا أمشي على مهل
هذا جزاء امرئ أقرانه درجوا ... من قبله فتمنى فسحة الأجل
ذكر وقعة شقحب
قال صاحب النزهة: هذه الوقعة عرفت بين الناس بوقعة شقحب، ثم بغباغب، فإنها كانت مشتملة على طرف شقحب وغباغب والصنمين، قلت: هذه أسماء قرى هناك، وهي أراضي وعرة ذات أحجار سود.
قال بيبرس في تاريخه: ذكر كسرة التتار على مرج الصفر في غرة الشهر الأزهر: لما انتظم شمل العسكر انتظام الجمان، واصطفت صفوفه كأنها بنيان، أضحوا كما قال أبو الطيب المتنبي:
وإذا رأيت إلى السهول رأيتها ... تحت العجاج فوارساً وجنائبا
وإذا نظرت إلى الجبال رأيتها ... فوق السهول عواسلاً وقواضبا
فكأنما كسى النهار بها دجى ... ليل واطلعت الرماح كواكبا
أسد فرائسها الأسود يقودهم ... أسد تصير له الأسود ثعالبا
اسم الکتاب : عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان المؤلف : العيني، بدر الدين الجزء : 1 صفحة : 417