اسم الکتاب : عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان المؤلف : العيني، بدر الدين الجزء : 1 صفحة : 213
كان السبب لمسك طرنطاى حقائد كانت في النفوس كامنة، قدحتها زناد الاقتدار، وضغائن طويت أحشاؤها على غلل، فحين ملكت تملكت لطلب الثأر، وقد تقدم ذكر ما كان طرنطاى عليه من الحرمة والتمكن من أستاذه ونفاذ أمره إلى وفاة المنصور، ولما تملك ابنه بعده أخذ في التدبير عليه وعلى حاشيته، فطلب الشجاعي وبيدرا والخاصكية، وبسط معهم من أمره، وكانوا يعلمون أن طرنطاى إذا استمر بالحكم ما كان يدع لأحد منهم كلمةً، فاتفقوا على القبض عليه وعلى من يلوذ به.
وعلم كتبغا والأمراء المتعصبين لطرنطاى الأمر، فاختلوا به، وعرفوه أن العمل عليه، واستنهضوه على أنه يفعل أمرا، وهم موافقون عليه، فكان جوابه لهم: والله أنا أعلم أنه يفعل معي كل سوء، وما أنا موثوق به أغبر، ولكن قيامي في حق نفسي بفساد جماعة كثيرة، وسفك دماء، وقلة وفاء، ولا يرجع يشتمل الملك لأحد إلا بعد فساد كثير، والله لا أفعل شيئا مما يعيبه الناس علي، فأكسب خطبة، فإن كان لي عمر في التقدير فلا يقدر أحد ينقصه، وإن كان الأجل قد حضر والسعادة قد فرغت، فلله الأمر، فعند ذلك علموا أنه لا يفعل شيئا.
وبقى الأشرف كلما دخل طرنطاى إليه يقربه ويكرمه ويتحدث معه في أمور النواب والعسكر، ويعد له مواعيد حسنةً، وطرنطاى يفهم من ذلك المقصود ويجيبه بما في نفسه، كما قيل:
يخفى العداوة وهي غير خفيةٍ ... نظر العدو بما أسر يبوح
وبقى الحال إلى يوم السبت، فطلبه إليه، وقد رتب للقبض عليه الأمراء، فعندما حضر شرع السلطان يذكر إساءته إليه، ويعددها عليه، فنظر إليه وقال: يا خوند، هذا جميعه قد علمته منك، وقدمت الموت بين يدي، ولكن والله لتندمن بعدي، وما فرغ من الكلام حتى أخذه اللكم من كل جانب، وأخذوا سيفه.
قال صاحب التاريخ: وبلغني أن بعض الخاصكية قلع عينه في ساعته، وما أمسى المساء حتى توفى إلى رحمة الله تعالى مقتولا.
وقيل: بل عاقبه إلى أن مات في ثامن عشر ذي القعدة وأقام ميتا ثلاثة أيام، ثم أخرجوه على جنوية إلى تربة الشيخ أبي مسعود، فغسله وكفنه الشيخ عمر خادم الزاوية من عنده، ودفنه قبلى الزاوية إلى أن ملك كتبغا، فأمر بنقله إلى تربته.
ولما قبض السلطان على طرنطاى قبض أيضا على زين الدين كتبغا بعده، وعلى سنقر الطويل وإلى باب القلعة، وطلب أبا خرص، فوجده قد سافر إلى الحجاز، وكان من المقربين لطرنطاى، وكان علم أن الأشرف ما يبقيه ولا يبقى حاشيته، فطلب دستورا إلى الحجاز وسأل أن يجهز نفسه من الشام، فرسم له بذلك وسافر من يومه، وطلب أيضا أمير علي بن قرمان فلم يوجد.
ثم سكن الأمير بيدرا في دار النيابة على عادة النواب، لأن الأشرف فوض إليه النيابة، وأخذ إقطاع طرنطاى وعدته، وما كان له من المشتروات والحمامات بنواحي الأعمال.
وفوض الوزارة إلى شخص يسمى محمد بن السلعوس.
ولما سكن بيدرا دار النيابة قال الشاعر:
كأنها بعدهم ليل بلا قمرٍ ... ونعمة حكمت فيها أعاديها
قال صاحب التاريخ: أخبرني بعض شهود الخزانة أنهم وجدوا في بيت طرنطاى فسقية صغيرة فيها ذهب، وورقة مكتوب فيها أخذها الشجاعي ودخل بها إلى السلطان، فكانت مائة ألف وعشرين ألف دينار، وهذا خارج عما ذكرنا من الحواصل، ووجد له من الغلال بمصر والشام مائتا ألف أردب وستة آلاف أردب، وكانت عبرة إقطاعه في ديوان الجيش أربعين ألف دينار، وكان أكبر متحصله من الدواليب والزراعات وأصناف المتجر.
ذكر وقعة ابن قرمان
قد ذكرنا أن السلطان طلب أمير علي بن قرمان بعد مسكه طرنطاى فلم يوجد، وكان لما علم بالقبض على طرنطاى شد تركاشه في وسطه، وركب حصانا من خيله، وكان يدخره لأمر يجرى عليه، ومازال يضمره، فركب وأخذ معه مملوكا كان يعتمد عليه، فخرج من المدينة، وكان مشهورا بالفروسية ورمي النشاب ولا يكاد سهمه يخطئ.
اسم الکتاب : عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان المؤلف : العيني، بدر الدين الجزء : 1 صفحة : 213