اسم الکتاب : المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام المؤلف : جواد علي الجزء : 1 صفحة : 217
أرض ذات حظ كذلك بعدد سكانها؛ فإنها حتى اليوم من أكثف مناطق جزيرة العرب وأكثرها سكانًا. وسكانها ثروة مهمة ومصنع غذى بلاد العرب والبلاد الإسلامية بموجات من القبائل، نشرت الإسلام والثقافة العربية في البلاد المفتوحة، كما أنه موّن العراق وبلاد الشام في الجاهلية بقبائل، استوطنت هناك؛ فكوّنت حكومات مثل حكومة الحيرة وحكومة الغساسنة، ونسب المناذرة ونسبة الغساسنة يرجع إلى اليمن. ولا تزال اليمن تقذف بالألوف من أنبائها كل عام، تقذف بهم في شتى الأنحاء إلى سواحل إفريقية المقابلة، حتى بلغ بعضهم الولايات المتحدة وإنكلترة، فكوّنوا فيها جاليات يمانية. ويعيش اليوم زَهَاء مليون يماني خارج اليمن، هاجروا من بلادهم لظروف مختلفة لا مجال للبحث فيها في هذا المكان. وقد سبقهم أجدادهم قبل الإسلام، فطفروا حدود جزيرة العرب وذهبوا إلى مصر وإلى بعض جزر اليونان.
ويعَدّ سكان "الجبل الأخضر" سعداء حقًّا بالقياس إلى سكان جزيرة العرب الساكنين في العربية الشرقية أو في البوادي الواقعة في جنوب المملكة العربية السعودية، فإن الغيوم المثقلة بالأبخرة تصطدم بمرتفعات هذا الجبل فتضطر إلى تفريغ شحنتها عليه. ولهذا توافرت المياه فيها، فاستغلها السكان وزرعوا عليها. وصارت الأودية من مواطن الحضارة القديمة التي تعود إلى ما قبل الإسلام بزمان طويل، كما صارت سفوح الجبال والمرتفعات موارد رزق للزرّاع، يستهلكون من الحاصل ما يحتاجون إليه، ويصدرون الباقي لمن يحتاج إليه من أهل بقية جزيرة العرب. وما زال أهل البلاد يزرعون على سنة آبائهم وأجدادهم الأقدمين. وقد شاهد السياح آثار سدود في هذه المناطق شيّدها الأقدمون للتحكم في الأمطار التي تسقط بغزارة وتجري سيولًا.
وفي مثل هذه الأمكنة نجد كتابات دوّنها أصحابها شكرًا لآلهتهم على إنعامها عليهم بالغلّة الوافرة وبالحصاد الغزير، أو لإنعامها عليهم بأرض مخصبة ولمساعدتها إيّاهم على حفر بئر زودتهم بماء للسقي وللزرع، ووجود هذه الكتابات دليل ناطق على وجود الحضارة فيها في تلك الأيام.
أما مواطن الحضارة، فقد وزّعتها الطبيعة بيدها، وما برح هذا التوزيع معترفًا به. وزّعتها عليها توزيعها للنبات والمعادن والماء. ففي المحلات ذوات الحظ التي أحبها الماء، فظهر فيها واحاتٍ وعيونًا وأحساء أو رطوبات أو
اسم الکتاب : المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام المؤلف : جواد علي الجزء : 1 صفحة : 217