اسم الکتاب : الشرق الأدنى القديم في مصر والعراق المؤلف : عبد العزيز صالح الجزء : 1 صفحة : 373
تسمية حاضرة أخرى، ألا وهي تسمية "حضارة جمدة نصر" التي أشرنا إلى الاتجاه الحديث نحو إدمامجها فيها. وتفاوت انتشار خصائص حضارة الوركاء في الجنوب وفي الشمال بتفاوت التطور في مراحلها المتتابعة، دون التزام بعدد الستة عشر الذي قسمت إليه مراحل عمرانها - وكانت مظاهر التطور في مراحل بواكير العصر الكتابي أكثر وضوحًا في الجنوب عنها في الشمال.
ويبدو أن المجتمع الزراعي العراقي القديم قد بدأ يصطبغ بصبغة مدنية منذ أواخر حضارة الوركاء "أو منذ بواكير العصر الكتابي الجديد"، فنشأت فيه بلدان أو مدن صغيرة تطورت عن القرى الكبيرة وامتازت عما تحيط بها من أراضي الزراعة والقرى العادية باتساع عمرانها اتساعًا نسبيًّا وبأهمية معابدها وقصور حكامها، وكفاية صناعها وفنانيها، وباتساع مجالات الإنتاج وفرص التشجيع فيها، وإن ظل ذلك كله في حدود نسبية بطبيعة الحال.
ولعل أهم ما يصور الرقى النسبي في حضارة الوركاء، هو نقوش أختامها التي ترجع مراحلها المتواضعة القديمة إلى عهود حلف والعبيد، ثم تطور عمارة معابدها. فقد استخدم أهل أوروك، أو الوركاء، أختامًا مخروطية ذات قواعد شبه دائرية كانوا يختمون بها على الطين عن طريق الضغط عليها ضغطًا رأسيًّا، وأختامًا أخرى أسطوانية الشكل كانوا يثبتونها في أيد خشبية ويختمون بها بتمريرها بقوة على سادات الأواني ولوحات الصلصال الطرية الصغيرة، وقد شاع هذا النوع الأخير واستغله الصناع لنقش مناظر دنيوية ودينية وأسطورية وعناصر أخرى زخرفية على سطوحه.
وبلغت نقوش أخام أوروك غايتها من التنوع خلال المرحلتين الرابعة والثالثة من مراحل عمران بلدتها، فصورت مناظرها الدينية مراحل أعياد المعبودات، ورمزت إلى تقوى الحكام وكبار الناس، ومما بقي منها ما يصور حاكمًا يتقدم بسنبلتي شعير غلى ستة رءوس من ماشية معبد مدينته كأنه يطعمها، وتلاه تابعه يحمل له مجموعة سنابل أخرى[1] وصورت رجلًا كبير المقام في مرحلتين من مراحل زيارته لمعبد هام، فأظهرته في بداية رحلته يستقل قاربًا يجذف له فيه أحد أتباعه ويتوجه به إلى مرساة المعبد، ثم صورته يسير في رحاب المعبد مبتهلًا ضامًّا كفيه تجاه وجهه مع ثني إبهاميهما إلى الخلف. يحف به كاهنان يرفعها قلادتين فخمتين أهداهما باسمه إلى ربة المعبد[2].
ورمزت المناظر الدنيوية في نقوش الأختام إلى بعض الأحداث العامة في عصرها، فصور أحد ما بقي منها ساحة حرب يتصدرها رئيس ذو لحية كثيفة وعمامة كبيرة ونقبة نصفية، يقف منتصبًا مستندًا إلى رمحه في اعتزاز وقوة، وقد تجمع أمامه عدد من زعماء أسراه عراة، ومنهم اثنان تقدما إليه في خضوع يعلنان التسليم وثلاثة رجال قيدت سواعدهم خلف ظهورهم وألقوا أذلة على أرض المعركة[3]. ثم رمزت مناظر [1] H. Frankfort, Cylinder Seals, Pl. V. D. [2] H. Farnkfort, The Art And Architecture…, Pl. Viii C. [3] Ibid., Fig. 7 A.
اسم الکتاب : الشرق الأدنى القديم في مصر والعراق المؤلف : عبد العزيز صالح الجزء : 1 صفحة : 373