اسم الکتاب : الشرق الأدنى القديم في مصر والعراق المؤلف : عبد العزيز صالح الجزء : 1 صفحة : 336
العصور ونمو الإمكانيات وتطور التصورات. فسادت الماديات في العصور المبكرة، ثم غلبت المعنويات عليها شيئًا فشيئًا خلال العصور المتحضرة المتتالية، ولكن دون أن تمحوها، فإلى جانب الارتقاء المستمر بعمارة المقابر وتوسيعها وتأمينها ضد عوادي الزمن واعتداءات الغير، باعتبارها المساكن الباقية لجثث أصحابها، بدأت الرعاية المادية في العصور المبكرة بتزويد المتوفى في قبره بما يمكن تزويده به من أواني الطعام والشراب والأدوات الضرورية وبعض مقتنياته الثمينة الخاصة، وتماثيل صغيرة رمزية لخدمه وجواريه إذا كان ثريًّا، وذلك ما يمكن تفسيره بالرغبة في إكرامه وإيثاره، وبالأمل في أن ينتفع بما يوضع معه في قبره خلال سفره الطويل، انتفاعًا يناسبه، وكل ذلك مع الحرص على تقديم القرابين وتلاوة التراتيل باسمه في الجزء العلوي من مقبرته في أوقات معينة وبما يتفق مع إمكانيات أهله.
وتطورت الرعاية شيئًا فشيئًا منذ أوائل العصور التاريخية، فاستعاضت عن الأطعمة الفعلية التي توضع في أسفل القبر، بتسجيل أسمائها وأعدادها ورموزها في قوائم منقوشة على لوحات خاصة تتخذ أوضاعًا محددة في قاعات تقديم القرابين فوق سطح الأرض، ثم تصوير مصادر خيرات الدنيا من زراعة وصناعة وصيد وفخر ولهو، على الجدران الداخلية في الجزء العلوي من المقبرة، ابتداء من أوائل الدولة القديمة. وقد رمزت هذه النقوش والمناظر في مجملها إلى أهم ما استحبه أهلها في دنياهم، ثم عبرت بتفاصيلها عن أغراض شتى، فاعتبرها أصحابها نموذجًا لما يودون أن تصبح عليه حياتهم في العالم الآخر، ورأوا فيها إذكاء لسعادة الروح وتذكيرًا لها بحياتها الأولى كلما هبطت من عالم السماء على قبرها، واعتقدوا بإمكان تحولها إلى حقائق تناسب العالم غير المنظور الذي سوف ينتقلون إليه، عن طريق ما يكتب معها ويتلى عليها من تعاويذ السحر وتراتيل الدين، واعتبروها تعويضًا احتياطيًّا لاحتمال تقصير ورثتهم في تقديم القرابين الفعلية لصالحهم، ثم اتخذوها وسيلة لتخليد السمعة والتفاخر والتعبير عن الثراء، ووسيلة للتعبير عن حب الزخرف والرغبة في استرواح صور الفن الجميل في الدنيا والآخرة. وانتقلت بعض هذه النقوش والمناظر منذ أواخر الدولة القديمة، من الحجرات فوق سطح الأرض إلى غرف الدفن وما حولها، وانتقل بعضها إلى سطوح التوابيت، ولكن ظلت أغراضها في أغلب الأحيان متشابة. وكان التابوت يعتبر المسكن الأصغر للمتوفى كما كان قبره يعتبر مسكنه الأكبر، ولهذا وجد من العناية والتطوير نصيبًا كبيرًا.
وتضمنت المقابر إلى جانب مناظرها ونقوشها، تماثيل كبيرة وصغيرة لأصحابها، وضعها الأحياء في أوائل الدولة القديمة في مقاصير مغلقة الجوانب وفي أقرب مكان فوق سطح الأرض يمكن أن يؤدي إلى بئر الدفن، كي ترغب الروح في التردد على مقبرة صاحبها وتسترشد بملامحها وهي في طريقها إلى حجرة دفنه حيث تحط على جثته. وليس من المستبعد أن تكون هذه الرغبة قد ارتبطت عند أصحابها بالخشية من أن تتغير ملامح الجثة أو تتحلل رغم وسائل حفظها، فتضل الروح عنها أو تنفر من أن تعود إليها، ثم انتقلت التماثيل منذ أواسط الدولة القديمة إلى مقاصير مفتوحة بالمقابر، وجمعت إلى غرضها السالف غرض تخليد صورة المتوفى بين الأحياء المترددين على مقبرته، وغرض تقديم القرابين والتراتيل أمامها لمنفعة روحه حين تتلبسها.
اسم الکتاب : الشرق الأدنى القديم في مصر والعراق المؤلف : عبد العزيز صالح الجزء : 1 صفحة : 336