اسم الکتاب : الشرق الأدنى القديم في مصر والعراق المؤلف : عبد العزيز صالح الجزء : 1 صفحة : 29
الكحل "الملاخيت" بجوار مواقد الأكواخ عن غير قصد، فإذا اشتدت نار المواقد وصهرتها خلصتها من لونها الأخضر وأبقت منها رواسبها المعدنية البارقة. ولما تكررت هذه الظواهر وأمثالها، والتفتت الأنظار إليها وظهر من الصناع من أدركوا مسبباتها، أصبحوا يكررونها عن قصد ويبحثون عن أخلاط النحاس في مواطنها القريبة والبعيدة ثم يصرونها بوسائلهم البدائية اليسيرة[1].
وتعتبر العهود الأولى لاستخدام النحاس في الشرق الأدنى جزءًا من فجر تاريخه، ولكنها توصف على الرغم من ذلك بثلاث تعريفات خاصة بها، وهي: تعريف زمني يسميها العصر الإنيوليثي بمعنى العصر الحجري الأحدث، وتعريف حضاري يسميها العصر الخالكوليثي بمعنى العصر النحاسي الحجري "وتعرب تجاوزا باسم عصر بداية المعادن"، ثم تعريف تاريخي يسميها باسم عصر ما قبل الأسرات في مصر بخاصة.
وبدأ الانتفاع بالنحاس على نطاق ضيق، ولم يزد استخدامه في بداية أمره عن صناعة مجموعات من الخرز الصغير تستخدم في أغراض الزينة، ومثاقب طويلة دقيقة استخدمت في ثقب حبات الخرز الحجرية، ودبابيس طويلة استخدمت في شبك أرديتهم الجلدية أو الكتانية. ثم اتسع استخدام النحاس اتساعًا نسبيًّا مع مرور الزمن، وصنعت منه بعض المدى والأسلحة الصغيرة، وتطلب هذا التوسع مزيدًا من النشاط في استخراج المعدن وتنقيته، ومزيدًا من النشاط في البحث عن مصادره. وكان أمر هذا النشاط في مصر أمرًا ميسرًا بعض الشيء، فقد توفرت مصادر النحاس فيها في شبه جزيرة سيناء وبعض مناطق الصحراء الشرقية، وذلك على العكس من حال أهل بلاد النهرين، الذين قلت مصادر النحاس في أرضهم وتوفرت فيما حولهم في إيران والأناضول وعمان، وكان عليهم بذلك أن يبذلوا المجهود في استيراده. [1] A. Lucas, Jea, Xxxi, 96-97; Coghian, Man, July 1939.
الفريد لوكاس: المرجع المعرب السابق – ص281 - 283، 246. وضوح التجمعات:
صحب التطور الحضاري في فجر التاريخ بشقيه، العصر النيوليثي والعصر الخالكوليثي، اتجاه إلى تكوين المجتمعات القروية ثم بداية التطور نحو المجتمعات المدنية. وقد مر بنا كيف دعت حياة الزراعة أصحابها إلى الاستقرار بالقرب من زراعاتهم لرعايتها وحمايتها، وإلى التعاون في سبيل استصلاح الأرض واستغلالها، ثم في سبيل دفع أخطار الفيضانات وتيسير الانتفاع بمائها، كما دعتهم إلى التقارب والتماس الأمن للفرد وأسرته وملكيته وسط الجماعة وفي حماية المجموع. وأدت هذه العوامل إلى تجمع سكان المناطق الزراعية في قرى صغيرة كانوا ينشئونها على مناطق الحواف، أي الحواف الزراعية والحواف الصحراوية، أو المناطق المرتفعة بعض الشيء عن مناطق الزراعة المنخفضة؛ بغية الابتعاد عن رطوبة أرضها، وبغية توفير مساحاتها للإنتاج الزراعي بقدر الإمكان. وكان المادة الميسرة في إنشاء مساكن القرى الزراعية هي الطين، الذي بدأ استخدامه في البناء على هيئة الجواليص، أي الكتل غير منتظمة الشكل، ثم تطور إلى هيئة قوالب اللبن المستطيلة المنتظمة الشكل مع تدعيم الطين فيها بالحشائش الجافة والمواد العضوية حتى يزداد تماسكه، ومع تدعيم أساسات المساكن نفسها بقطع الدبش الغفل، ونشأت أمثال هذه القرى في بداية أمرها متواضعة
اسم الکتاب : الشرق الأدنى القديم في مصر والعراق المؤلف : عبد العزيز صالح الجزء : 1 صفحة : 29