* المهاجرون في سجون مكّة:
مرّ بك ذكر قصة هشام بن العاص بن وائل السهمي وعياش بن أبي ربيعة، كما رواها صاحبهما ورفيقهما في الهجرة عمر بن الخطاب رضي الله عنهم جميعا وعرفت كيف أن الأوّل منهما- هشام بن العاص- منعه المشركون من الهجرة، وحبسوه في مكة، وفتنوه في دينه، وأن الثاني- عيّاش بن أبي ربيعة- استطاع الهجرة في رفقة عمر بن الخطاب، ولكنه لم يكد يصل إلى المدينة حتى ذهب إليه أبو جهل بن هشام، وأخوه الحرث بن هشام، واستدرجاه حتى عادا به إلى مكة مقيّدا في الأغلال ووضعوه هو وهشام بن العاص في سجن واحد. ولما هاجر النبي صلّى الله عليه وسلم، واطمأن به المقام في المدينة، رقّ لأصحابه الذين لا يزالون يعانون في مكة القهر والظلم والسجن، ومنهم هشام بن العاص، وعيّاش بن أبي ربيعة، فقال عليه الصلاة والسلام: «من لي بعيّاش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص؟» فقال الوليد ابن الوليد بن المغيرة: أنا لك يا رسول الله بهما، فخرج إلى مكة، فقدمها مستخفيا فلقي امرأة تحمل طعاما، فقال لها: أين تريدين يا أمة الله؟ قالت: أريد هذين المحبوسين عياش وهشام فتبعها حتى عرف موضعهما وكانا محبوسين في بيت لا سقف له، فلما أمسى تسوّر عليهما، ثم أخذ مروة [1] فوضعها تحت قيديهما ثم ضربهما بسيفه فقطعهما، فكان يقال لسيفه: ذا المروة، ثم حملهما على بعيره وساق بهما، فعثر فدميت أصبعه، فقال: هل أنت إلّا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت؟ ثم قدم بهما على رسول الله صلّى الله عليه وسلم المدينة» [2] .
هذه صور وأمثلة- وهي قليل من كثير- من تعامل قريش مع المسلمين، قبل الهجرة وأثنائها وبعدها. فهل كان بوسع المسلمين أن يسكتوا على هذا وأن يقفوا مكتوفي الأيدي، وأن يقبلوا هذه المهانة، كلا وألف كلا! بل لا بد من المواجهة، والمواجهة القوية الحاسمة التي تضع قريشا أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن تؤمن بالله الواحد الأحد، وأن محمدا عبده ورسوله، وإما القتال. ولكن قبل المواجهة لا بد من أن يعدّ الرسول صلّى الله عليه وسلم المسلمين لمواجهة قريش، العدو الرئيس للإسلام في هذه المرحلة.
* الدولة الإسلامية تقوم في المدينة لتحمي الدعوة:
كان الإسلام في مكة دعوة، وأصبح في المدينة- بعد الهجرة- دعوة ودولة؛ [1] المروة: الحجر الأبيض الصلب. [2] ابن هشام (2/ 87، 88) وانظر كذلك السيرة النبوية لابن كثير (2/ 221) .