وهكذا مضى العباسيون قدما في تنفيذ السياسة التي رسمها الأمويون لأسلمة بلاد ما وراء النهر، وحققوا نجاحات هائلة، وسارت الثقافة الإسلامية في ركاب الإسلام، وتوطدت أركانها بين أهل البلاد ولم تعد ثقافة الوافدين، وبدأ أهل البلاد يتعلمون اللغة العربية، وإذا كانت المراكز الثقافية فيما وراء النهر- خاصة في بخارى وسمرقند- لم تبرز وتحدد معالمها إلا في عهد الطاهر بين (205- 259 هـ/ 820- 873 م) والسامانيين (261- 389 هـ/ 874- 999 م) إلا أن الخطوات الأولى التي أدت إلى ذلك التطور قد بدأت في أواخر العصر الأموي وأوائل العصر العباسي.
ومن أراد أن يعرف الجهود التي بذلها أهل ما وراء النهر وإسهاماتهم في الثقافة الإسلامية ويقدر كل ذلك حق قدره فما عليه إلا أن يرجع إلى كتب طبقات العلماء، مثل طبقات الأطباء، والحفاظ، والفقهاء، والمفسرين، والمحدثين، والنحاة، واللغويين، والشعراء ... إلخ ومما لا شك فيه أن بروز علماء كبار من أهل تلك البلاد من أمثال الإمام البخاري- لا على مستوى بلاد ما وراء النهر فحسب، بل على مستوى العالم الإسلامي- لم يتم بين عشية وضحاها بل لا بد أن يكون هذا الجيل من العلماء مسبوقا بأجيال كثيرة مهدت له الطريق [1] .
* انتشار الإسلام في بلاد ما وراء النهر:
تمهيد:
قبل الحديث عن انتشار الإسلام في بلاد ما وراء النهر، يجدر بنا أن نقول كلمة موجزة عن طبيعة الدعوة الإسلامية والعوامل التي مكنت للإسلام من الانتشار والقبول في جميع الأقطار التي فتحت بصفة عامة، وفي بلاد ما وراء النهر بصفة خاصة.
أما عن طبيعة الدعوة الإسلامية وماهيتها فهي طبيعة عالمية، والدين الإسلامي دين عالمي بمعنى الكلمة [2] ؛ فقد جاءت الرسالة الإسلامية للجنس البشري كله، وليس لشعب دون شعب، ولا لأمة دون أمة، وهذه الحقيقة نصت عليها آي الذكر الحكيم في وضوح مثل قوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً [سبأ: 28] ، وقوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: 107] ، وقوله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [الأعراف: 158] ، إلى غير ذلك من الآيات [1] د. حسن أحمد محمود- المرجع السابق (ص 163، 164) . [2] انظر بارتولد- تاريخ الترك في آسيا الوسطى (ص 70) .