وما ذكروه ـ أيها المريد الصادق ـ يمكنك تشبيهه بالمريض الذي قد يعزل في
محال خاصة، إلى أن تعود إليه الصحة، وحينها يمكنه أن يعود للاختلاط بالمجتمع من
جديد.
ويدل لهذا النوع من العزلة قوله تعالى: ﴿واذكرِ اسم ربِّكَ
وتَبَتَّلْ إليه تبتيلاً﴾ [المزمل: 8]،
فالآية الكريمة تدعو إلى التبتل، وهو الانقطاع التام لله تعالى، وهو نفس معنى
الخلوة.
ومما يدل عليه من السنة أن
(أولُ ما بُدِىءَ به رسول الله a من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل
فلق الصبح، ثم حُبِّبَ إليه الخلاءُ، وكان يخلو بغار حِراءَ؛ فيتَحَنَّثُ فيه ـ
وهو التعبد ـ الليالي ذوات العدد، قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى
خديجة، ويتزود لمثلها، حتى جاءه الحق، وهو في غار حراء)([1229])
وقد علق بعضهم على هذا الحديث
بقوله: (في الحديث دليل على أن الخلوة عون للإنسان على تعبده وصلاح دينه، لأن
النبي a لما اعتزل عن الناس وخلا بنفسه، أتاه هذا
الخير العظيم، وكل أحد امتثل ذلك أتاه الخير بحسب ما قسم له من مقامات الولاية،
وفيه دليل على أن الأوْلى بأهل البداية الخلوة والاعتزال، لأن النبي a كان في أول أمره يخلو بنفسه.. وفيه دليل على أن البداية ليست
كالنهاية، لأن النبي a أول ما بُدِىءَ في نبوته
بالمرائي، فما زال a يرتقي في الدرجات والفضل، حتى جاءه المَلكُ في
اليقظة بالوحي، ثم ما زال يرتقي، حتى كان كقاب قوسين أو أدنى، وهي النهاية. فإذا
كان هذا في الرسل فكيف به في الأتباع؟! لكن بين الرسل والأتباع فرق، وهو أن الأتباع
يترقون في مقامات الولاية ـ ما عدا مقام النبوة، فإنه لا سبيل لهم إليها، لأن ذلك
قد طُويَ بساطه ـ حتى ينتهوا إلى مقام المعرفة والرضا، وهو أعلى مقامات الولاية)